مع غياب كامل للسوريين، في النظام والمعارضة، تم التوقيع في الأستانا يوم ٤ مايو نيسان الجاري على اتفاق خفض العنف الذي يشمل أربع مناطق تضم أجزاء من محافظة إدلب واللاذقية وحماة وحلب وحمص ودرعا والقنيطرة. وهي المناطق التي تشكل خطوط الجبهة الرئيسية المتبقية بين قوى المعارضة وميليشيات النظام السوري المتعددة الجنسيات. يهدف الاتفاق الذي تعتبره الدول الثلاث الضامنة، روسيا وتركيا وايران، “إجراء مؤقتا مدته ستة أشهر” قابلة للتمديد بموافقة الضامنين، إلى وقف أعمال العنف بين الأطراف المتنازعة، ووقف استخدام أي نوع من السلاح بما في ذلك طائرات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية، وتأهيل البنية التحتية، وتامين الشروط المناسبة لعودة اللاجئين والنازحين الراغبين في العودة. ومن المفترض حسب الاتفاق أن تشكل الدول الضامنة قوات خاصة لإقامة الحواجز ومراكز المراقبة وإدارة المناطق الأمنية.
وباستثناء تعبير الخارجية الأمريكية عن شكها في امكانية نجاح هذا الاتفاق، الذي يجعل من طهران حسب تعبيرها ضامنة له وهي احد المسؤوليين الرئيسيين عن استخدام العنف، كما يتجاهل سجل النظام السوري السيء في تنفيذ الاتفاقات السابقة، لم تظهر ردود أفعال ذات مغزى لا عن الدول العربية الداعمة للمعارضة ولا عن تجمع اصدقاء الشعب السوري ولا ممثلي الامم المتحدة.
لاينبغي ان يكون لدى اي انسان وهم حول مغزى الاتفاق الذي وقعته الدول الثلاث، التي أعلنت نفسها بشكل ذاتي، صاحبة المبادرة في ايجاد حل للنزاع السوري، وفي ما وراء ذلك، تأكيد وصايتها غير الشرعية على سورية، ورسم مستقبلها بغياب جميع الاطراف السورية والدولية.
وليس هناك من يعتقد بين الاطراف الدولية والسورية جميعا أن الهدف من هذا الاتفاق كان بالفعل تخفيف مستوى العنف أو توفير المزيد من المذابح والارواح البشرية، أو أنه جاء من وحي اي حافز اخلاقي او انساني. كما ان من المؤكد تقريبا انه لن يكون في تطبيقه افضل من الاتفاقات التي سبقته، وانه سيستخدم كما استخدم غيره من اجل قضم المزيد من المواقع لقوات المعارضة وتضييق الخناق عليها بذريعة ضرورات فصلها عن الفصائل الجهادية والمتطرفة، وأنه سوف يعمق الشرخ القائم في ما بين أطرافها، وانه لن يحترم في النهاية الا من جانب واحد، وسيكون بالضرورة اتفاق الزوج المخدوع.
فبصرف النظر عن الديباجة التبريرية، يندرج هذا الاتفاق في سياق واضح، لايزال يترسخ منذ اكثر من ثلاث سنوات، هو سياق تراجع المعارضة وانكفائها على خط الدفاع الذي لاتزال تقف عليه منذ عدة سنوات، وتنتقل فيه من مواقع متقدمة الى مواقع اكثر تراجعا، على المستويين السياسي والعسكري. كما يندرج في سياق خسارة المعسكر الاقليمي والدولي المناصر للمعارضة تفوقه لصالح صعود المحور الروسي الايراني، الذي جعل من الممكن ان تدخل ايران في فريق الدول الراعية للاتفاق ومن ورائه للحل، وهي الطرف الاكثر انخراطا في الحرب ضد الثورة والمعارضة، وان تتحول الى ضامن لوقف النار والسلام، في الوقت الذي تشكل ميليشياتها القوة البرية الأولى في حماية معكسر النظام، بينما تبدوا الدول العربية وجامعتها كما لو أنها قبلت بتهميشها تماما، بما في ذلك الدول التي وقفت سنوات طويلة الى جانب المعارضة.
لكن في ما وراء ذلك، وأهم منه، أن هذا الاتفاق، الذي لا يختلف في جوهره واهدافه عن الاتفاقات والمصالحات والهدن المحلية التي اعتمدها النظام كخطة طويلة المدى لتفتيت المعارضة واحتوائها، هو جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الروسية العسكرية والسياسية التي سعت بجميع الوسائل، وأهمها الطيران الحربي، إلى تغيير خريطة الصراع على الأرض، من خلال العمل على ضرب تواصل قوى المعارضة وعزلها في مواقع ثابتة، وإنهاء الحقبة التي سيطر عليها الصراع الشامل، بين الثورة والمعارضة من جهة والنظام من جهة ثانية، ومن ثم إلى تحويل الثورة الى بؤر تمرد مغلقة ومحاصرتها سياسيا بعد ان تمت محاصرتها عسكريا، ومن وراء ذلك استعادة المبادرة وإعطاء التفوق والأسبقية لميليشيات النظام من جديد، بصرف النظر عن تناقضاته وخراب أركانه وتهافت مرتكزاته وشرعيته.
أخطر ما جاء به هذا الاتفاق أنه أوحى للعالم وللمجتمع الدولي أننا لم نعد امام قضية ثورة ضد نظام جائر ودموي، ولا حتى في مواجهة حرب اهلية شرسة، وانما امام دول ثلاث منخرطة في الصراع تنسق في ما بينها من أجل تمكين السلطة المركزية للدولة على استعادة سيطرتها على حركة او حركات المعارضة والتمرد التي وقفت في وجهها وقاومتها لسنوات طويلة. وكذلك، أن طهران لم تعد احد المسؤولين الرئيسيين عن تمويل الحرب وتمديد أجل النزاع، وإنما جزء من الحل، وأن الأمر قد تحول منذ الآن من أزمة سياسية مستعصية إلى مسألة تقنية تتعلق بمراقبة وقف اطلاق النار وتأمين فرق المراقبة الدولية المؤهلة للقيام بذلك. وبالفعل بدأت الكثير من التعليقات الصحفية تشير إلى هذا الاتفاق كما لو كان يمثل بداية الحل. وهذا ما يتماشى مع الخطة الروسية التي تريد ان تستفرد بالحل وتفرض الصيغة التي تنسجم بشكل أكبر مع مصالحها ورهاناتها. هكذا ضعف وسيضعف أكثر شعور المجتمع الدولي بالحاجة العاجلة للبحث عن حل يرضي تطلعات السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد الدموي، ولن يتساءل أحد بعد الآن عما إذا كان هذا الاتفاق يقود نحو تسوية سياسية فعلية تتفق ومضمون قرارات الأمم المتحدة ومجلس الامن، وإنما عما إذا كان من الممكن إنجاح الاتفاق ووقف إطلاق النار فحسب.
لم تخطء فصائل المعارضة إذن برفضها التوقيع على الاتفاق إلى جانب الدول الثلاث احتجاجا على إدخال طهران طرفا ضامنا للحل السياسي والسلام في حين أنها كانت ولا تزال المسؤول الأول عن قرار تمديد اجل الحرب وخوضها حتى النهاية، والتي لا يخفي مسؤولوها حجم المجهود الحربي الهائل الذي قدموه في قتال الشعب السوري والسعي للقضاء على ثورته بأي ثمن، سواء على شكل قوات برية ميليشاوية أو مساعدات مالية وسياسية ولوجستية. كما لم تخطء الهيئة العليا للمفاوضات التي ذهبت ابعد من ذلك في إدانة الاتفاق واعتبرته مقدمة لتقسيم سورية.
يعكس هذا الرفض خوف أطراف المعارضة السورية من نتائج هذه الاتفاق العسكرية والسياسية وفي مقدمها تكريس الدول الثلاث راعين للحل السياسي في سورية ومصادرة إرادة الشعب السوري في تقرير مستقبله، كما يعكس قلق السوريين والمعارضة من تطبيع دور ايران في سورية الحاضرة والجديدة. لكنه لا يمكن أن يشكل ردا على الاتفاق الذي ستضطر الفصائل إلى احترام بنوده، وتطبيقه، مهما كان الأمر، خاصة ان تركيا التي “تمثل” الفصائل في هذا الاتفاق وفي المفاوضات التي تجري في الاستانا، هي شريك رئيسي في اعداده وأحد ضامنيه.
يحتاج وقف التدهور المتواصل في الموقف العسكري والسياسي لفصائل المعارضة ردا من نوع آخر، أي ردا استراتيجيا. وهذا يعني في الوضع الراهن بناء استراتيجية مستقلة وفعالة للمقاومة من قبل المعارضة والفصائل، تختلف عن تلك التي اتبعتها في السنوات الماضية، والتي قامت على ردود الأفعال والتسليم للاصدقاء والحلفاء والذهاب فصائل مشتتة إلى المفاوضات وانتهت بها إلى طريق مسدود. وقد كانت من دون نقاش نموذجا لاستراتيجية الفشل التي لم يكف الرأي العام السوري الثوري والمعارض عن التنديد بها منذ سنوات من دون أن يحصل على أي رد ايجابي من قبل فصائل عسكرية تدعي التضحية من أجل الثورة واهدافها بينما ترفض أي مبادرة لبناء جسم وطني عسكري واحد وقيادة موحدة مشتركة، عسكرية وسياسية، تعكس إرادة السوريين في التحرر والمقاومة ورفض تأهيل النظام،وتعزز موقفها الاقليمي والدولي بتأييدهم وثقتهم. فالشرط الأول لمنع الآخرين، من الدول والمؤسسات والتكتلات، من مصادرة قرار السوريين والتفاوض عنهم والحلول محلهم، وقطع الطريق على تقسيم سورية، أو استخدام الاتفاقات الفنية مثل اتفاق خفض العنف، أو إقامة المناطق الامنية والفصل بين الفصائل والجبهات ذريعة للتمهيد لهذا التقسيم، هو توحيد قوى المعارضة والثورة السورية وتحقيق وحدة قيادتها. كل ما دون ذلك من احتجاجات وإدانات وشكاوى يدخل في باب التعبير عن المشاعر والسخط لكنه لا يشكل استراتيجية للمقاومة وتأكيد التمسك بالقرار الوطني ولا يغير كثيرا في المنحى التراجعي الذي يميز مسيرة المعارضة اليوم. مع العلم أن هذا الاتفاق يشكل آخر امتحان للمعارضة. وهو الذي سيقرر مصيرها.
العربي الجديد-برهان غليون