حلب، تلك المدينة التي كانت ثاني أكبر المدن السورية، بتعداد سكّان يفوق المليوني نسمة، وقطّاعها السياحيّ الناّبض بالحياة حول قلعتها البالغة من العمر 13 قرناً، ومسجدها الأمويّ، وسوقها العريق، الآن وبعد خمس سنوات من الحرب الأهليّة، حلب جُرحٌ مفتوح، ورمزٌ للنَّزيف المتزامن مع انحدار تلك البلاد نحو الهاوية.
لقد تمّ شطر المدينة بخطّ مواجهة، قاسَى البراميل المتفجّرة ونيران المدفعيّة، في حين تمّ تحويل العديد من مناطقها إلى مشهد حُطام، تلك المناطق التي يقطنها الآن قرابة 300،000 مدنيّ متبقّي، يصارعون يومياً من أجل تأمين احتياجاتهم الأساسية، أصبح كابوسهم أشدّ وطأةً مؤخراً، حيث اندلعت ولمرّة أخرى اشتباكات عنيفة في الأسابيع القليلة الماضية، مدمّرة منشأتين طبيّتين كانتا تقدّمان إغاثة ومساعدات صحية، وخاصّة للأطفال. كما أن وقف إطلاق النار الذي بدأ صباح يوم الأربعاء، وحدد بمدة 48 ساعة وحسب، من الانفراج المؤقت من القصف، أعطي قيمة كبيرة مع أنه لم يكن تحت إشراف أي جهة !
إن الإطار الواضح هو الانهيار القريب للهدنة الجزئية في سوريا والتي استمرت لمدة شهرين، بعد أن تم التفاوض عليها رسمياً من قبل الولايات المتحدة وروسيا، فحلب هي إحدى ساحات المعركة الكثيرة، في حرب استنزاف تبدو بلا نهاية، في حين يمكن القول الآن بأن مصير الأمة يرتكز على هذه المدينة، فهي مركزٌ لجماعات الثّوار المناهضين للأسد، والّتي أُريدَ منها أن تكون جزءاً من تسويةِ الأممِ المتّحدة عن طريق التّفاوض.
وإن كان لهذه التسوية أن تتجسّد، فهذا أيضاً بسبب موقع مدينة حلب الاستراتيجي، على مقربةٍ من الحدود مع تركيا، والتي هي بمثابة شريان الحياة بالنسبة لخطوط الإمدادات وتحرّكات اللّاجئين، وإذا ما سقطت حلب، فستُسحقُ حينها كل الآمال المتعلّقة على مفاوضات سلام حقيقي، لكن الجهود الدبلوماسيّة في جنيف وغيرها، لم تبدو سابقاً كما الآن منفصلة تماماً عن الحقائق على الأرض كما هي الآن.
إنّ نظام الأسد والمدعوم من حلفائه الروس والإيرانيين، كان قد بذل جهداً كبيراً في محاولة استعادة السّيطرة على حلب، وذلك منذ سقوط أجزاء منها بأيدي الثوار في صيف عام 2012، تلك المناطق التي برزت كتجربة عمليّة للثورة المناهضة للأسد، بلجانٍ شعبيّةٍ تخلق أشكالاً جديدةً من الحكم المحلّي، في مجتمع مزقته الحرب، وحلب، هي أيضاً تلك المدينة حيث سجّل الثّوار المناهضين للأسد، انتصارات كبيرة ضدّ تنظيم “داعش” دافعين بهم خارج مناطقهم الرئيسيّة في مطلع عام 2014.
إنّ مِحنة حلب الحاليّة، تَبِعَةٌ من تَبِعاتِ التدخّل العسكريّ الرّوسيّ في سوريا، والذي بدأ في سبتمبر عام 2015، والذي كان قد غيّر ميزان القِوى تَغييراً جَذريّاً، حيث عزّز ذلك التّدخل قاعدة نفوذ الأسد، وأضعف المعارضة، في حين ضمن موقف موسكو كلاعبٍ محوريٍّ في الأزمة، وحَشَرَ القِوى الغربيّة، والتي كانت قد تخلّت عن محاولة تسخير التعاون الروسي، وأخفقت بشكل ذريع ولم تحقق سوى نتائج ضئيلة حتى الآن.
وفيما كان الأسد يخلق الوقائع على أرض المعركة، تم اكتشاف مسار دبلوماسيّ من قبل الأمم المتحدة. حيث تمّ تحفيز هذا الجهد وإيقافه في أوقات مختلفة، اعتماداً على التكتيكات الروسيّة، وكان من المفترض بوقف الأعمال العدائية” يوم 27 شباط/فبراير، تأمين القاعدة الأساسية لإجراء محادثات سلام جادّة، عوضاً عن ذلك سمح هذا الاتفاق للأسد وداعميه بإعادة تجميع وإعداد هجمات عسكريّة جديدة، مثل تلك التي تمت على حلب.
وبينما يصبّ تركيز العالم على تعقيدات المناقشات في جنيف، أو على إعلان عناوين صحف موسكو حول الانسحاب الروسي من سورية، يتدفّق المزيد من العِتاد الحربي إلى حساب معسكر الأسد، بحيث أصبح النظام السوري يحظى بصلاحيات كافية تخوِّله من التّحدّث عن إعادة احتلال تلك الأراضي التي خسرها سابقاً، في حين لجأ لاستخدام ذريعة “المحادثات” لكسب المزيد من الوقت، ورفض طوال الوقت، المبادئ الأساسية “للانتقال السياسي” والذي دعا إليه قرار الأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول.
وفي الوقت نفسه، استفاد نظام فلاديمير بوتين من ظهوره كنظير للولايات المتّحدة، دون الحاجة منه إلى تقديم أي تنازلات خطيرة.
في هذا الوقت تجاوزت حصيلة قتلى الحرب السّوريّة 400.000، ولا تزال النهاية غير واضحة في الأفق، فالولايات المتحدة في خضم انتخابات جديدة، والرئيس الأمريكي لا يخفي بأنّ أولويته هي محاربة تنظيم “داعش”، وليست تغيير النظام في دمشق.
ويبدو من الصعب معرفة إن كانت الاتفاقات بين الأسد و”داعش” على النفط الذي يغذي التنظيم ستستمر، أمّا روسيا وبعد أن قامت بالتصرّف بشكل أكثر حسماً من الغرب، فهي تملك اليد العليا الآن، فحصنها في سوريّا، والّذي يشمل أنظمة الدفاع الجوي القوية، كان قد منحها مركز المهيمن في الشرق الأوسط والعالم، ولا أحد يعلم ما إذا كان الرئيس الأمريكي الجديد سيقوم بتغيير موقفه، ولكن في الوقت الراهن يبدو أن الإدارة الأميركية الحاليّة تفضِّل الحفاظ على مظهر المحادثات، لعدم وجود خيارات أخرى.
ومن الممكن الإشادة بجهود جون كيري بإنفاقه الكثير من الطاقة على المحادثات، إلا أنّ تهديده الأخير من “تداعيات” عدم التزام الأسد بـ”وقف إطلاق النار” هي تهديدات جوفاء وفارغة، فلقد أدَّت هدنة 27 فبراير/شباط، إلى درجة من الارتياح في بعض مناطق سوريا، وعدد أقل من الضربات الجوية، في مقابل المزيد من قوافل المساعدات، هذا مهمٌ حقاً، ولكنّ الادعاء بأن هذه الصفقة قامت بمعالجة جذور الصِّراع بدلاً من الأعراض، سيكون وهماً، هذا إن لم يكن سخرية.
إن الوسيلة الدائمة والثابتة للخروج من المأساة السوريّة، تتطلّب مواجهة جذور المشكلة ، وإن كان لأيّ شيء أن يتغير، فيجب ممارسة المزيد من الضغط الدولي على داعمي الأسد، موسكو وطهران، فلا معنى لوقف لإطلاق إن لم يتمّ احترامه في حلب، فالعمليّة الدبلوماسيّة التي تغض الطرف عن استمرار العنف، تخاطر بأن تصبح تمريناً في الواقع الافتراضي، وتشتيتاً عن تغيّر الحقائق السريع على الأرض.
ففي نهاية المطاف، لا جدوىً من ذلك، لربّما تقوم هذه العملية بِخلقِ سراب التقدم، ولكن، ليس أكثر من ذلك، في حين تستمرّ عذابات المدنيين السوريين، في خضم الأحداث الجارية في حلب التي تجعل من استمرار عذاباتهم تلك أمراً سهلاً.
الغارديان – ترجمة بلدي نيوز