القدس العربي _ مهند الخيكاني
من أبرز ما يُلمح في تجربة الرسامة نادية أوسي، ذلك الانعكاس المضاعف لذاتها الغارقة في استحضار الماضي إلى لوحاتها. ثمة أسلوب يطغى على معظم اللوحات، يمكن وصفه بأنه استدعاء لحقبة زمنية معاشة من قبل الرسامة، يشبه «الفلاش باك» مع وجود محفز متمثل بالحنين. لذلك ونحن نتصفح لوحاتها، كأننا نتصفح ذكرياتها.
وما يشد أكثر أن معظم تلك الذكريات تتآلف مع ذكريات أجيال كثيرة، تثير الحماس والطمأنينة بمجرد النظر إلى تلك اللوحات، تنظر إلى أيام خلت.
تركز الرسامة في لوحاتها على أبرز تشكلات واقع المرأة داخل البيت وخارجه، آنذاك، فمرة نجدها تجلس إلى ماكنة الخياطة، ومرة وهي تقطّع الخضراوات، ومرة واقفة عند الباب، ممثلة عمر المراهقة والصبي المراهق الجميل بأوج اندفاعه يمر أمام الفتيات راكبا دراجته، محاولا جذب الانتباه.
ومن الملاحظ أن الرسامة تميل إلى إظهار الجانب المشرق والدافئ من تلك الحقب الزمنية، على الرغم من أنها حقب ممتلئة بشتى أنواع المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية، مع خليط من المعاناة بكافة أنواعها، لكن الحنين له جيناته الشعورية الخاصة، وتوجهاته العديدة، فمرة يحن الإنسان إلى خراب ماض وإن كان خرابا، ومرة يحِن إلى أيامٍ كانت هي الأجمل في حياته، وتحمل في طياتها أشخاصا وأصدقاء وأمكنة وقصصا وسرديات لا تحصى، تكون الشعلة في إضاءة الحنين لدى الإنسان.
وكلما ازداد الحنين كان يحمل معنى الرفض للواقع، والحاضر الذي يعيشه الإنسان. فالحنين درجة من درجات المقارنة والمفارقة أيضا. وهذا ما يبدو جليا عند معظم الفنانين في أعمال متفرقة، لكن في تجربة نادية، فإنها تأخذ صفة التفرد والانحياز والاحتكار إلى حد ما، في استثمار وتوظيف مرئيات الذاكرة عبر ألوان متوهجة، حيث تظهر النساء في قمة دلعهن، وإثارتهن، حتى وهنَّ منشغلات في العمل داخل البيت، فتظهر مرة في شعرها المنسكب والمبعثر مربوطا بوشاح، والـ»النفانيف»، التي تزيدهن طغيانا في الأنوثة والغواية، ومرة تظهر والعباءة العراقية السوداء تظللها ويحفها الخجل والعيون الذكية التي تصطاد بنظرات حادة لا تُرى.
الكثير من الأعمال الفنية، تكتسب مكانة وقيمة عليا في الأوساط المهتمة، وكلما مضت عليها السنوات، منحها القِدمُ شيئا من القداسة، يشبه الآثار الدينية المقدسة.
ومرة تظهر متأملة قرب نافذة الغرفة المطلة على الجسر، ودجلة الحانية. ولم تكتفِ بإظهار المرأة بجغرافية محددة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، وخاصة عندما تتنوع لوحات المرأة العراقية عندها، بين المرأة البغدادية ذات الطابع المعاصر والمرأة الجنوبية المحلقة فوق مويجات الأهوار، في مناخات حلمية ضاجّة بالسلاسة والانهمار العذب الرقراق، الذي يمنحه التجسيد المطابق مع الرؤية الفنية الذكية. هذا النوع من اللوحات هو رهان حقيقي، على الأسلوب، والنظر في زواية ميتة أو شبه ميتة، حاملة معها طابعا فكريا وعاطفيا جديدا.
من خلال هذه اللوحات يمكن عقد مقاربات ثقافية واجتماعية ومن ثم مقارنتها بما آلت إليه وقائع الحياة في المجتمع، فالأجواء الاحتفائية الضاجّة بالسلام والفرحة والطمأنينة، مع الاهتمام الشديد بوصف الثياب الخاصة بتلك الحقبة الزمنية، وصفا دقيقا، وتسريحات الشعر، وأنواع القبعات، كلها محاولات ناجحة تستعرض الموضوع في سياقات مدروسة بعناية، تحتم على المشاهد عيش تلك اللوحات بما فيها من شمس حارقة، أو ربيع أو صبيات حالمات.
وبلا شك أنها تؤرخ لسنوات نتذكرها فقط، تختزنها الأرواح والقلوب، ولا تستطيع أن تراها في فيلم ٍ أو مسلسل ٍ جيد، فالسينما والدراما العراقية في عجز مطبق، إلا حالات فردية ناجحة، ولا تترك ذلك الأثر البالغ.
ولو ترجمنا هذه اللوحات إلى كلمات، سنجد أنها تنطبق تماما على ما تحمله الذاكرة من مشاهد حميمة، ولقطات متفانية الدقة والصنع، تشكلت بفعل المصادفات النادرة من حياة ماضية، ما يجعلها صالحة لأن تكون دراسات وصفية تمثل الزمن الذي تنتمي إليه، وتحتفظ به، وهو شيء من سلطة اللوحة على الزمن والمشاهد، على الرغم من وجود الكاميرا والصور الفوتوغرافية، التي حطمت القول الشائع، بلا زمنية الصورة اعتمادا على المنظور الذي يعتبر عين المشاهد، مركز العالم المرئي في تللك اللحظة التي تجتمع فيها أشياء معينة تؤلف تركيبة اللوحة، يقول سيزان في هذا المجال: «دقيقة واحدة من حياة العالم تمر، أن ترسمها في واقعها، مع نسيان كل شيء من أجل ذلك، أن تصبح أنت تلك الدقيقة، أن نصور ما نراه، متناسين كل شيء ظهر قبل زماننا»، فكيف إذا كانت هذه اللحظة تنتمي إلى زمن ماضٍ، ويعاد صنعها وتكميلها في زمن حاضر؟
ولأننا ننظر إلى الماضي بحنين دافق، فإن كثيرا من الأعمال الفنية، تكتسب مكانة وقيمة عليا في الأوساط المهتمة، وكلما مضت عليها السنوات، منحها القِدمُ شيئا من القداسة، يشبه الآثار الدينية المقدسة.
أخرج فهمي المرأة العراقية الخجولة والمقيدة بتقاليد المجتمع والعشيرة من جميع القيود، وأظهر حركاتها المثيرة على بساطتها، بشكل أوسع، وكأنها محاولة لإنصاف المرأة وإبرازها بهذا الشكل الصادم.
ومن الملاحظ أن عنوان كل لوحة، ينطبق على اللوحة بشكل أو بآخر، على الرغم من خطورة وجود كلمات تحيط باللوحة، أي لوحة، ذلك أن المتلقي/ الرائي في تلك اللحظة، سيفسّر اللوحة لتماثل الكلمات لا العكس، وهو ما يحد من أفق التلقي ويضيق سعة الرؤية داخل العمل الفني. لكنها في مثل هذا النوع من اللوحات ذات المحتوى الشائع والمتعارف عليه، لن تشكل مشكلة كبيرة، فالموضوع محسوم من البداية، ولن يعاني من التشظي، أو الرمزيات، أو العلامات الغامضة، كما يحدث لدى التجريديين والتكعيبيين.
كما أن الفنان العراقي محمود فهمي، يشتغل في المنطقة نفسها التي تستدعي الذاكرة العراقية، والبغدادية على وجه التحديد، إلا أن فهمي، يضيف كثيرا إلى واقعية المشهد، أو اللقطة المنتقاة من الذاكرة، فمرة نراه يشترك مع نادية أوسي، في جذب لقطات معينة من الذاكرة، وعرضها بطريقة متشابهة ومباشرة، قيمتها بما تحتويه من تفاصيل صغيرة وكثيرة تعود إلى الماضي، وتذكِر المتلقي عبر إثارته عاطفيا بتلك اللحظة المتلاشية من حياة العالم مع استيلاد طاقة حركية جاذبة أكثر، تتخلل التفاصيل، وبين نسائه اللائي يحلقنَ مرة فوق المدن، ومرة يفترشن النهر، كما في لوحته «خاتون دجلة»، ومرة مستلقيات أو نائمات على سطوح البيوت مثل لوحة «العودة إلى بغداد»، مع تضخيم صورة المرأة بشكل بارز جدا ونادر، وهي طريقة ذكية لاستدراج المضمر والمستور في البيوتات العراقية، إلى الخارج، حتى نكاد نرى في بعض اللوحات أحجام النساء الكبيرة تعادل البيوت، وترقى على الجسور، وأشجار النخيل والسدرة المعمرة، فالرسام هنا في هذه التنويعة من اللوحات، يضع الجمال الأنثوي البغدادي خاصة، في المركز، ثم تتراصف بقية التوصيفات المتعلقة بالجدران والحدائق والأسيجة والبناء وكل ذلك، إلى هوامش مساعدة، تحمل طاقة إشارية عالية تحيل إلى الحقبة الزمنية التي تنتمي اليها هذه المرأة.
لقد أخرج فهمي المرأة العراقية الخجولة والمقيدة بتقاليد المجتمع والعشيرة من جميع القيود، وأظهر حركاتها المثيرة على بساطتها، بشكل أوسع، وكأنها محاولة لإنصاف المرأة وإبرازها بهذا الشكل الصادم، خاصة أن النساء يشغلن المساحة الأكبر والأشهر في لوحات فهمي، فمضاعفة الحجم هنا، هو فعل تراكمي لجمالات لم تأخذ نصيبها في الحياة والوجود، فآثرت أن تفعل ما يفعله كل إنسان عندما يضيق عليه الواقع، ألا وهو اللجوء إلى المخيلة والانفجار بهذه الكمية والحجم.
فالتخييل عند فهمي في الحقيقة، لا يفيض فيصبح تجريديا أو ضربا من الإبهام غير المبرر، ولا ينقص فيكون انطباعيا/ واقعيا من الدرجة الأولى، وهذه الموازنة والاتساق بين التخييل الذي يضفيه فهمي والواقعية، هو ما يحدده الحنين والأسلوب المتبع في استجلاء تلك المشاهد.
نقلا عن القدس العربي