زماااان.. في مراحل الصعود، والأحلام.. وحين كان العرب يحملون مشروعا للنهوض، والتوحيد، والردّ على مراحل الاستعمار.. وبحثاً عن “إحياء” الكيان العربي المضمّخ بتراث حضارته الإنسانية.. لم يعرف المجتمع العربي هذا الانقسام القائم على أساس ديني، ومذهبي، ولا حتى إثني، ناهيك عن العشائري وسواه ..
كانت الوحدة الوطنية هي السمة العامة، وكان التعايش الغني بين مختلف الفئات هو الأقوى، والأقدر على استيعاب مختلف التباينات، بما فيها بعض الصدامات، والتنابذات التي لم تك لتعمّر طويلاً، أو تنتشر كظاهرة انقسامية طاغية، أو أن تتموضع في قلاع مسوّرة بالأحقاد والانتقام ورفض الآخر ..
ـ لكن حين سقط ذلك المشروع، وانكفأ، وخانه من ادعى حمله، ورفع راياته.. حدث الفراغ فجوات رهيبة تبحث عن شيء يملؤها..
ـ ومع الارتداد المنهّج على جوهر أفكار ومبادئ مرحلة التحرر والاستقلال، وتحوّل معظم السلط التي حكمت باسم قوى التحرر الوطني والقومي إلى أنظمة أمنية، واستبدادية، ونهبية، وفئوية، وعائلية، وتلك السطحية في فهم وطرح العلمانية، والحداثة، وتجويفها بطريقة متخلفة.. وتغوّل الأنظمة في القمع واغتيال الحريات العامة والفردية، وتحويل الأوطان إلى مزارع خاصة، وتأبيد الحكام، وتغييب الشعب، وتهميشه، وقتل أحلامه، وكرامته، وحقوقه.. كان الدين الرحب، المتسع.. مجالاَ مفتوحاً للتعويض، واللجوء.. فعرفت فترات ما بعد السبعينات نمواً ملفتاً في التوجهات الدينية والمذهبية.. دون أن يترافق ذلك مع حركة تنويرية، إصلاحية تتابع ما عرفه تاريخنا الحديث من محاولات جادة لروّاد النهضة، وتطوير الخطاب الديني السائد، وتخليصه مما لحق به من أثقال متخلفة، وتفسيرات مشوّهة خارج العصر، وبعيدة عن روحه، وغاياته .
على العكس فإن إمعان النظم العربية في احتقار موقع وحياة ومساحة الإنسان، والتفريط بالقضايا الوطنية والقومية، وتحويل البلدان إلى بورصات خاصة، وأسواق للتجارة بيعاً وشراء، والمقايضة بكل شيء.. شكّلت الأرض الخصبة لنمو التشدد : محاولة للتغيير المصاب بردود الفعل العنيفة..حين كانت الاتجاهات الوسطية مبعدة، أو منكفئة، أو متعايشة مع الوضع السائد.. وبما زجّ بأفواج الأجيال إلى ذلك الأتون أملاً بإنهاء تلك النظم بالقوة والعنف، أو الانتحار متعدد الأشكال، وولادة الفكر الإرهابي الشمولي الذي ينظر للآخرين جميعاً ـ بمن فيهم المسلمين الوسطيين ـ على أنهم كفرة، وزنادقة، ويعيد بطريقة مشبعة بالثأر مراحل الاقتتال، وبعض زوايا التاريخ المظلمة ..
ـ هنا نفتح قوساً كبيراً لما فعله الطاغية الأكبر بعد انقلابه التفحيحي في اللعب بالمسألة الطائفية والارتكاز إليها في حكمه، ثم موضعتها بشكل فجّ، ووقح، وخطير لم تكن لتسترها كافة الشعارات الخلّبية : القومية واليسارية والحداثية، والشعبية، والبعثية، ولا”الجبهة الوطنية التقدمية”، أو الواجهات السنية، ومن بقية الطوائف التي كان ينصّبها كثيرة في المواقع الرسمية، والظاهرة، حيث أن اعتماده ـ بالأصل على مرتكزين : الأمن والجيش كان يفضح حقيقته حين اتضح للجميع أن القوى صاحبة القرار، والقوى النافذة والمُعتمدة، والماسكة بأركان الحكم، والضامنة لاستمراره هي في جلّها من أبناء الطائفة العلوية الموثوقين.. بدءاً من العائلة والعشيرة والمنطقة ووصولاً إلى تلك الحلقات الأوسع المعدّة لتكون خدماً للنظام ورأسه. ناهيك عن التركيز الطائفي في البعثات، ومفاصل الدولة، وقطاعات كثيرة كانت تخالف المطروح، وتخلّ بأسس العدل والتوازن، وتفتح المجال لبروز الاتجاهات الطائفية ولو عبر التسلل، والهمس، والانتشار في الأوساط الشعبية . وبالوقت نفسه تعامل ذلك النظام مع بنيان المجتمع وفئاته من ذلك المنظور خدمة لعمليات الانقسام وهزّ الوحدة الوطنية واقعياً، وبما كان يخلق الأجواء لنمو التيارات المذهبية جميعها، ولو بشكل سري على حساب الوطن ووحدته .
الأديان، والمذاهب، والتفرّعات، والتفريخات الناتجة عنها، والمدارس الفقهية، والطُرقية وغيرها.. وحرية العقيدة، والعبادة أمر يختلف عن ممارسة تسييسها، فهي نتاج التطور التاريخي للأديان، وتعبير عن انقسامات سياسية تموضعت في طيّات التاريخ وفقاً لعديد العوامل، ثم استقرت، وتعايشت في البنى السائدة التي فشلت قوى التحرر، والحداثة، وحركات الإصلاح الديني في زحزحتها من مواقعها، وظلت أسيرة تراكمات بنى التخلف، تمارس معهوداً ظهر ـ على امتداد مسافات مراحل التراجع و”الانحطاط” ـ على أنه موغل في القدم، يتقيّأ الماضي من منظور تقليدي، عفوي، تغلب عليه قشور الطقوس، وملحقات إفرازات تلك المراحل. فنام فترة الصعود، أو لجأ إلى الانكماش والتورية، وحين أتاحت له المتغيرات الظهور نهض من رقاده بثيابه القديمة، وجعبته الفكرية السابقة التي يزيدها ماضوية نمو الفكر المتطرف، وحركات الغلو، وما نجم عنهما من توليد قوى مسلحة، وجملة من المتغيّرات الداخلية والإقليمية والخارجية .
ـ علينا الاعتراف بأن ” الثورة الإسلامية الإيرانية”، وقبل تحولاتها الواضحة، أو قبل انكشاف لبّها القومي، المذهبي، وفلسفتها الاندفاعية في غزو بلدان الآخرين تحت شعارات تصدير الثورة.. قد أحدثت حراكاً كبيراً في الأوساط الإسلامية جميعها، حيث شجّع الوصول إلى السلطة عديد الحركات القديمة، والجديدة على الدخول في رهانات مشابهة، وعلى تنشيط حركات الإسلام السياسي، والجهادي، ورفع رايات المقاومة، ومقاومة” نظم الطاغوت” بكل الوسائل، حتى لو كانت تفجيرية، وإرهابية، وغرائبية ..دون إغفال مستتبعات التصدي لاحتلال السوفييت لأفغانستان وتراكب” العقل الجهادي” مع إرادة وفعل القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة وأجهزة مخابراتها، ومفرزات ذلك في ولادة فكر، وتنظيم القاعدة وشيوعه في بلدان وأوساط عديدة .
ـ بالوقت نفسه فإن تفرّد آيات الله بالحكم، وتصفية الشركاء والحلفاء والمناوئين لهم، وتأسيس” مملكة” ولاية الفقيه الدينية المغطاة ببعض فتات ديمقراطية(انتخابات الرئاسة)، والاندفاع إلى خارج الحدود بمشروع قومي لا يخفي جذره الفارسي، ولا طابعه المذهبي، والثأري… خلق مزيد الشروط لفعل مقابل يعتمد المذهبية إطاراً، وردّأً.. حتى إذا ما قامت الثورة السورية وكشّر المشروع الإيراني عن وجهه الطائفي، وعلاقاته العضوية بالنظام السوري الذي يقتل شعبه، ويدمر بلداً عريقا كسورية، والطلب من حزب الله وغيره من الأذرع التابعة إنجاد ذلك النظام قبل تهاويه بفعل تصميم وضربات الثورة السورية…ارتفعت وتيرة الصراع المذهبي درجة تعلو غيرها، وكأنها هي التي باتت أسّ الصراع، ووجهه.. وغاياته …
ـ لقد جهدت القوى المعادية للثورة، وفي مقدمهم النظامين قي سورية وإيران على وضع الثورة بين فكّي كماشة : ردّ الفعل الطائفي، والإرهاب، وتمّ الدفع المدروس لتغطيس الثورة في ذلك الأتون، وهو يتغذى بممارسات تنمّي الغرائز، وتدفع بالعواطف وردود الفعل لأن تكون هي المحرّك الأقوى .
وحين نفحص ما يجري في العراق ـ على مدار سنوات غزو وتدمير الدولة العراقية، وتسليم العراق للنفوذ الإيراني، وتنصيب حكومات طائفية، تحاصصية تستخدم” المظلومية التاريخية” سيفاً لقطع رقاب السنة العرب، وتهجيرهم، وتغيير الديمغرافيا.. ثم توظيف قصة الإرهاب، وعنوانها الرهيب “داعش” لشنّ حرب إبادية ضد معظم السنة العرب..يمكن تفهّم هذا الارتجاج في الصراع، وانحرافه الخطير نحو مسالك أخرى بديلة..
ـ كما أن انقلاب الحوثيين على الشرعية في اليمن بتلك الاندفاعة، والحسابات الساذجة، والرايات الكاذبة، وبجاحة الدعم الإيراني، ومحاولاتهم الجشعة لوضع اليد على اليمن، وتهديد الجوار، خاصة في المملكة العربية السعودية، ومعظم بلدان الخليج العربي.. أسهم هو الآخر في توسيع الهوّة، وفي الدفع القوي نحو استقطابات طائفية يُراد لها أن تشمل الوطن العربي برمته، وأن تكون هي الوجه والمضمون .. وأن يجري عبر ذلك تغييب، وطمر جوهر القضايا الرئيسة للشعوب العربية، إن كان ما يتعلق منها بانتزاع الديمقراطية وإقامة أنظمة تعددية تستجيب للحد الأدنى من مطالب وحقوق الشعب، وتكنيس عفن وسوءات نظم الاستبداد والفئوية، أو في مواجهة واقع التخلف، وانهيار الاقتصاد، أو في التصدي الفاعل لمشروع الكيان الصهيوني الاغتصابي، ونسفه لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس .
ـ استبدال الصراع الحقيقي بآخر مغشوش أمر خطير يحمل معه حروباً أهلية طاحنة، وانقسامات عمودية قد تسفر عن مزيد التفتيت، وخلق كيانات أخرى على حساب الدولة القطرية الراهنة، وقد تضمن بقاء نظم الاستبداد لفترة أخرى..
ـ إن خلافنا مع إيران مختلف بالقطع عن صراعنا مع الكيان الصهيوني، فالخلاف منحصر بنظام الملالي : القومي، المذهبي، وليس مع الشعوب الإيرانية التي تشاركنا تاريخاً مديداً، وروابط كثيرة ترشحها لأن تكون الظهير والسند، والصديق، والحليف . كما أن إعادة الصراع إلى حقيقته أمر مطروح على جميع القوى السياسية والثورية، وأولهم” السنة العرب” كي لا يكونوا ضحية مشروعات كونية تتضح فيها البصمة الصهيونية، ومشاريع التقسيم، والغرق في حروب مغشوشة طويلة .
عقاب يحيى 31 آذار 2015