ميشيل كيلو – العربي الجديد
م يتطابق السياسي والعسكري منذ قامت الثورة السورية، واتسمت علاقاتهما إما بافتراق ظهرا معه، وكأنهما جهتان تنتميان إلى ثورتين مختلفتين، وليسا وجهين متكاملين ومتلازمين لثورة واحدة، أو بتبعية فصائل وهيئات عسكرية لهيئات وفصائل سياسية، متناقضة المواقف والرهانات، حصرت أنشطتها، في معظم الأحيان، بتفريق المقاتلين وانتزاعهم من تنظيماتهم الأصلية، ونقل خلافاتها إليهم، لتزيدهم تمزقاً على تمزق، وضياعاً على ضياع.
باختلاف النشأة بين السياسي الذي اقتصر، في البداية، على حراك مجتمعي سلمي، شمل مختلف مناطق سورية، وكان يعتقد أنه سيكون قصيراً وحاسماً، وبين العسكري الذي نشأ بفضل انفكاك عسكريين عن جيش النظام، بعد أن شرع يقتل مواطني”ه”، ويدمر قراهم ومدنهم، وقع تطور سار فيه السياسي على نهج، والعسكري على آخر ، بينما افتقر كلاهما إلى قيادة تجمعهما وتنظم علاقتهما، وتحدد ما هو متكامل أو متناقض بين أنشطتهما ومهامهما، وتجعل سياساتهما ومواقفهما الموحدة تنبع من خطة شاملة للحراك، وتستجيب لحاجاته، لكي لا ينجح النظام في تحويله إلى صراع مسلّح، متزايد العنف، يضعف السياسي، الضعيف أصلاً، لصالح العسكري، المتخبط والمجزأ، ويحل تدريجياً “المجاهد” محل المتظاهر السلمي، ويقيد حراكه، ويقلبه أكثر فأكثر إلى عنف مسلّح غير هويته، على الرغم من أن نجاحاته كانت تعوض بعد الشيء عن النتائج الوخيمة لتشتته المكاني.
بدل أن يقوي السياسي العسكري والعسكري السياسي، أضاف كل منهما نواقصه وعيوبه الكثيرة إلى مصاعب الآخر، الذاتية والخاصة، فتناقض العسكري البادئ بارتباك مع حراك سلمي مضطرب ومتخبط سياسياً، تقوده جهات محلية، تفتقر إلى الخبرة والتجانس، وإلى تفاهم يتخطى مكانيتها الضيقة، تدعمه رؤى جامعة: متقاربة أو متشابهة فكرياً وعملياً، في حين تعارض السياسي مع صراع عسكري، تختلف شروط نجاحه اختلافاً كبيراً عن شروط نجاح ما افترض أنه الحاضنة السياسية التي نشأ فيها. هذا الانتقال المفعم بالنواقص والعيوب، قام على افتراق العسكري عن السياسي، فعزز عيوب وضعيهما، وإيجاد بيئة شك وارتياب بينهما جعلت هم السياسة، بعد تأسيس المجلس الوطني بصورة خاصة، اختراق العسكر واستمالة مجموعات أو أفراد منهم، وأخذ موطئ قدم للنفوذ وكسب الولاءات بينهم، في حين لعب المال السياسي القادم من الخارج دوراً مدمراً في تنمية ميل عسكر الحارات والشوارع، المعزولين غالباً بعضهم عن بعض، إلى تنمية استقلالية مزعومة في مواجهة السياسي، أو بعيداً عنه، أخذت صورة تمزق أصاب ما كان يجب أن توحده التطورات والمصالح الوطنية، وأبرزت عقلية المفاضلة بين السياسي والعسكري، متجسدين في داخل مسلّح وخارج سياسي، وبدات تنتشر أسطورة أن الحسم سيكون عسكرياً، وأنه يكفي لحدوثه تزويده بقدر وافر من السلاح والمال، فلا حاجة به إلى إطاعة مركز سياسي موحد، أو قيادي، لا دور ولا لزوم له.
بذلك، تناقص دور السياسي وتأثيره، بدل أن يتزايد مع تصاعد الصراع، واعتبر مجرد عبء ثقيل على كاهل ثورة تتحول أكثر فأكثر إلى أعمال عسكرية ظافرة يغذيها، ويدعمها خارج عربي وإقليمي، تتصارع توجهاته ودوله. وزاد الطين بلة أن العسكري كان يخوض معارك كثيفة، لكنها مجزأة، وتدور في مناطق متفرقة.
خلال هذه العلاقة التي كانت تتطلب معالجة جدية وثورية، وبدل إزالة ما بين السياسي والعسكري من صعوبات وتناقضات، دعي قرابة 600 مقاتل عسكري ومدني إلى مؤتمر في أنطاليه لهيكلة الجيش الحر، تم استبعاد الائتلاف عنه، على الرغم أن العالم كان قد اعترف به مرجعية سياسية له. ذلك كان يعني انتزاع المسألة السورية من السياسي، ووضع يد الخارج على العسكري، وكان يؤسس لفصل أحدهما عن الآخر وبالعكس، ووضعهما في عالمين متباينين ومختلفين أشد الاختلاف، وإخضاع السياسي للتهميش التام والعسكري لإرادات وخطط، لا تنبع قيمتها وأولويتها من أثرها الوطني، أو هويتها السياسية المستقلة، ولا تمت إلى الثورة وحراكها بصلة داخلية ملزمة.
عوض رفض هذا الحدث الخطير، والرد عليه ببرنامج شامل لتوحيد السياسي والعسكري، ولإقامة علاقات لا لبس فيها، بينهما تجعل منهما جسمين، ينتميان عضوياً بعضهما إلى بعض، وإلى ثورة واحدة، تجاهل قادة الائتلاف – السياسي – ما وقع، ولجأ من حل محلهم فيما بعد إلى طريقة “أسدية” في التعامل مع العسكر، أن استغلوا وضعهم على رأس جهة سياسية معترف بها دولياً، لكي يشتروا “قادة” عسكريين، ويستخدموا لأغراض محض انتخابية وشخصية من أرسلتهم أركان الجيش الحر من المقاتلين إلى “الائتلاف”، مندوبين عن المجلس العسكري الأعلى، مع أن هؤلاء انتدبوا إليه لكي يمثلوا مصالح ووجهات نظر المجال العسكري في المجال السياسي، ويقيموا تطابقاً فاعلاً بينهما. بذلك، تم تقريب واستبعاد المكونات العسكرية حسب قابليتها للشراء، أو امتناعها عنه، وقيمة أصواتها الانتخابية، وليس وفق أي معيار وطني. وبذلك، فاقم “السياسي” مشكلات العسكري الذي كان يتعرض لتراجع ميداني متواصل، تحت وطأة هجمات ضارية، تعرض لها على يد النظام و”داعش”، أخرجته من معظم المناطق التي كان قد طرد الأسد منها، وتلازمت مع قطع المدد الخارجي بصورة شبه تامة عنه: مع أنه كان شحيحاً ومتقطعاً على الدوام.
سيكون من الصعب أن تنتصر ثورة يذهب ساستها في اتجاه وعسكرها في آخر، ولن تنجح نضالات يستخدم الساسة العسكر فيها لمقاصد شخصية، لا علاقة لها بمبدأ وطني أو ثوري. في المقابل، لن تنجح ثورة يعزف عسكرها عن تصحيح مسارها، مع أنهم حاملها الذي يرتبط استمرارها، ونجاحها بوحدته وبقدرته على الفعل، علما أن انقساماته وخلافاته لعبت دوراً كبيراً في تقويضها، مثلما لعبت خلافات وانقسامات السياسي دوراً مخيفاً في تمزقه وهزائمه.