يدرك المرء، على غرار إدراك البديهيّ الجليّ، أنّ مفردة واحدة وحيدة، هي النفط، تشكّل محرّك المواقف الأمريكية ـ تسعة أعشار السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط بأسره؛ من الظهران السعودية إلى كركوك العراقية، ومن الصحراء الجزائرية إلى مأرب اليمنية. أو، باختصار، حيثما توفّرت مكامن تلك المفردة السحرية، وحقولها وآبارها.
غير أنّ هذا المستوى الأوّل، الذي يحرّك سياسات القوى العظمى على نحو حاسم قد يدفعها إلى إرسال جيوشها الجرّارة لغزو البلدان والشعوب، هو الشكل الأعلى من سياسات كونية تعتمدها شركات النفط الكبرى العملاقة، وتنهض ركائزها على الاحتكار والسيطرة والاستغلال. وبالطبع لا تنقلب هذه الركائز إلى صناعة إمبريالية لائقة بالإمبراطوريات، الكبرى العملاقة بدورها، إلا إذا تكاملت سياسات النهب الخارجية مع تلك الداخلية.
على صعيد الدول المنتجة للنفط، تنقلب سياسات الشركات الكبرى في النهب الخارجي والداخلي إلى مزيج عجيب من التسليم والتبعية، والتبذير والفساد؛ فضلاً عن ذلك الطراز العجيب من وفرة لا توفّر الكفاية لأهلها، كما حين يضرب الفقر الكثير من الدول الغنية بالنفط، أو حين يضطرّ بعضها إلى استيراده غالي الثمن… بعد تصديره رخيصاً!
وفي ضوء حال التأزيم الراهنة، التي افتعلتها السعودية، وتقودها، ضدّ قطر؛ ثمة حكمة في استعادة بعض عناصر ذلك التراث القديم، المتجدد أبداً في الواقع، الذي يخصّ «ميزان التبادل» الجيو ـ سياسي بين الولايات المتحدة والمملكة، خاصة بعد حرب الخليج الأولى، ثمّ الثانية:
1 ـ خلال عقود الحرب الباردة، كانت ستراتيجية الأمن القومي الأمريكي تعتمد كثيراً على مبدأ احتواء الخطر السوفييتي، بمصطلح كوني تحظى فيه المملكة «الصديقة» برعاية دفاعية وأمنية خاصة؛ وتتحمّل هذه الأخيرة، في المقابل، سلسلة «مسؤوليات» تبدأ من أبسط أشكال المساندة الدعاوية ضد «الخطر الشيوعي»، ولا تنتهي عند القواعد العسكرية وعقود بيع السلاح الخرافية. وكانت أسباب عميقة موروثة (على رأسها النفط، بالطبع، ثمّ أمن إسرائيل، وتعطيل أي مشروع نهضوي عربي…) تضفي أهمية كبرى على طبيعة العلاقة مع المملكة، وتستدعي نوعية خاصة من الفعل الاجرائي التكتيكي والستراتيجي.
2 ـ القضايا المتصلة بأمن «الصديقة» واستقرارها ظلت حيوية في ذاتها، ولكنها بعد الحرب الباردة باتت أكثر عرضة للتأثّر الحادّ بالمستجدات التي تسارعت وتعقدت طبيعتها الجيو ـ سياسية: انشقاق إيران (والعراق طبعاً، قبل احتلاله) عن التوازنات السياسية لطور ما بعد «عاصفة الصحراء»، مشكلات صعود التيارات الإسلامية، انسداد كلّ الآفاق أمام تنفيذ اتفاقيات أوسلو، هزّة 11/9 بما أدخلته من تعديلات جذرية على مفاهيم الأمن الداخلي الأمريكي، احتلال أفغانستان والعراق، صعود «حماس» و«حزب الله» وإعادة رسم خرائط التحالفات الإقليمية حول محور إيراني عابر للانحيازات المذهبية التقليدية بين قوس الإسلام الشيعي ودائرته السنّية… وهذا، كلّه، قبيل انتفاضات العرب، وصعود «داعش».
3ـ الأخطار التي بدت محدقة بالمملكة، حول مفاهيم «الأمن» و«الاستقرار»، وسواهما من أنساق تهديد ليس من السهل إدارتها عن طريق إيفاد حاملات الطائرات وفيالق التدخل السريع؛ أخذت تكمن في العاقبة الطبيعية للتآكل التدريجي ـ البطيء، ولكن المحسوس للغاية ـ في البنى الاقتصادية والسياسية لهذه «الصديقة» للولايات المتحدة، الحليفة لها في كلّ كبيرة وصغيرة.
هذه، بين عناصر أخرى لا تقلّ أهمية، كانت تجبر حكّام المملكة، خاصة بعد أن انقلب عليها وحش الإرهاب ذاته الذي صنعته بأموالها وأجهزتها، على جَسْر الهوّة بين عماء النفط، وخواء السياسة؛ وسط عجز الجاسر الذي، في الحالَين، يسوس أقدار الديرة والعيال، بعقلية شيخ عشيرة!
بذلك، وعلى هذه الخلفية تحديداً، وما خفي من مفاعيلها، لا تسير سياسات التأزيم السعودية إلا على رمال متحركة، متعاقبة، يتوالد بعضها من بعضها الآخر؛ في منطقة لا يسهل إغماض العين عنها برهة واحدة، دون دفع ثمن فادح!