تستند الأيدولوجيا السياسية المعلنة للنظام السوري، في غضون الصراع الحالي، إلى فكرتين أساسيتين: الأولى داخلية، تتحدث عن خطر سيطرة إسلاميين متطرفين إرهابيين. والثانية خارجية، تتحدث عن وجود مؤامرةٍ، غايتها ضرب سورية البلد وسورية الدولة، بما يخدم، في النهاية، مصالح إسرائيل وأعداء سورية.
لا يخفى على أحد أن سورية تعيش، اليوم، بالفعل سيطرة الإسلاميين على الجانب المقابل للنظام: من تمدّد القاعدة في سورية، وإعلان أيمن الظواهري نيته جعل سورية قاعدة للتنظيم والتفكير بإعلان إمارة، إلى انتشار الفكر الإسلامي، بتدرجاته المختلفة، في المجتمع السوري، ولا سيما بين الشباب، إلى الحديث المسيطر عن “نظامٍ علوي”، بدلاً من الحديث عن “نظام مستبد”، ما يدل على تحوّلٍ جذري غير تحرّري، وإسلامي الطابع، في اتجاه التغيير، إلى الحديث عن دولةٍ إسلاميةٍ وخلافةٍ وتطبيق شريعة .. الخ.
وتزداد فاعلية هذه الرواية في الوسط الموالي، مع ملاحظة مدى تبعية اليسار المعارض، وتساهله إزاء ظاهرة التمدّد القاعدي هذه، ومثاله الأبرز تصريح رئيس المجلس الوطني السوري، جورج صبرا، في يناير/ كانون الثاني 2012، إن جبهة النصرة (الفرع الرسمي للقاعدة في سورية) جزء من الثورة السورية. وصبرا من خلفية شيوعية، وقضى سنوات في سجون الأسد، بسبب انتمائه لحزب شيوعي.
ولا تخفى على أحد دلائل العمل على استثمار الصراع السوري، لإضعاف سورية البلد، منها مصادرة السلاح الكيماوي، بدلاً من المحاسبة على جريمة استخدامه ضد مدنيي الغوطة، وقد قاد هذا الاتفاق إلى تحليلاتٍ سياسيةٍ موالية، تذهب إلى أن الهجوم الكيماوي كان مدبراً في الأصل، وأن الغاية منه ابتزاز النظام بالضربة الأميركية التي راح البنتاغون يستعد لها في أوائل خريف 2013، لانتزاع سلاح الردع الاستراتيجي من يد سورية.
ومنها الغارات الإسرائيلية التي استفادت من وضع الفوضى إزاء سورية، لاستهداف مخازن أسلحة حديثة، ومنها الدمار الفعلي الذي حل بسورية، وهو يخدم بلا شك إسرائيل. هذا فضلاً عن أن الإرادة الإسرائيلية، وبمجاراة أميركية، لإضعاف أي بلد عربي، ولا سيما البلدان المحيطة بإسرائيل، مسلّمة سياسية.
تبني أيدولوجيا النظام، على الفكرة الأولى، موقفاً رافضاً للمعارضة، جملة وتفصيلاً (اليساري والسلمي والعلماني والديمقراطي ..إلخ)، باعتبار أن أي فعل معارض مستقل إنما يخدم الزحف الإسلامي، ما يعني ضرورة الوقوف إلى جانب النظام رأس حربةٍ في وجه الفاشية الإسلامية. لا محل حتى للرماديين في صراع على هذا القدر من الخطورة، الرمادية تلامس الخيانة. وقد جاءت إدانة الموقف الرمادي على لسان أعلى ممثل سياسي للنظام.
ويعتمد النظام على الفكرة الثانية لتحريض حس وطني، طالما كان له حضوره المميز في المجتمع السوري. يحاول النظام أن يصوّر نفسه على أنه يخوض “حرباً وطنية”، تتميز، هذه المرة، بأن أداتها داخلية، وهي التنظيمات الجهادية، ويمتد هذا الاعتبار واقعياً، ليشمل كل صنوف المعارضة، وهذا ما يسوّق له حزب الله أيضاً، في تبرير دخوله الصراع إلى جانب النظام السوري.
وعلى دعامة الوقوف في وجه “الفاشية الإسلامية”، وفي وجه الإمبريالية، بنى معارضون يساريون سابقون كثيرون في سورية جسر العودة إلى معسكر النظام.
“نحن لا ندعم النظام، ولنا تاريخ طويل في معارضته، ودفعنا الأثمان ..إلخ، لكننا لا نرضى أن نكون في معسكر أميركا وإسرائيل، لأن المستهدف ليس النظام، بل سورية البلد، وسورية الدولة، وعلينا الآن الوقوف في وجه الفاشية الإسلامية”.
لا جديد في هذه الأيدولوجيا السياسية، فالنظام قمع شتى صنوف المعارضات السورية، وفق الأيديولوجيا نفسها عقوداً خلت. قمع اليمين الإسلامي، لأن المعارضة اليمينية تخدم الإمبريالية، وقمع اليسار العلماني، لأن المعارضة اليسارية تخدم هذا اليمين. بهذا، تنغلق الدائرة، ويتماهى النظام مع الوطن والوطنية. هذا منطق يقول، ببساطةٍ، إن أي معارضة للنظام، أمس واليوم، هي فعل خيانة.
يبدو هذا القول، بلبوسه الوطني المضاد للتطرف الإسلامي وللإمبريالية، مقنعاً وقادراً على تغطية سلسلة الجرائم الوحشية التي ارتكبها ويرتكبها النظام ضد المجتمع السوري ككل. لكنه قولٌ لا يفسر، مثلاً، دأب النظام على قمع العلمانيين حتى اليوم، على الرغم من تقدم “الخطر الإسلامي”. ولا يفسر الضعف المتزايد عن استرداد الحقوق الوطنية المغتصبة، على الرغم من عقود من استراتيجية “التوازن الاستراتيجي”. ولا يفسّر رعاية النظام الفساد في كل المؤسسات وضمن المؤسسة العسكرية نفسها، ولا رعاية الحساسيات الطائفية، واستخدامها داخل هذه المؤسسة، وفي عموم المجتمع.
باختصار، لا يجيب هذا القول على سؤال بديهي: لماذا، بعد عقود من العمل على درء الخطر الإسلامي، ومجابهة التحديات الخارجية، نجد أننا أمام خطر إسلامي غير مسبوق، وفي حضيضٍ غير مسبوق من الانكشاف الوطني. فضلاً عن الحضيض الاقتصادي والتعليمي ..إلخ؟
ألا يعني هذا أن وراء الستارة “الوطنية والعلمانية” ممارسة مناقضة؟ ألم ترفع هذه الستارة عن عبد الحليم خدام فيتحول، في لحظةٍ واحدة، من نائب لرئيس الجمهورية ومناضل صلب في سبيل العلمانية والتحرير، إلى فاسدٍ من طراز خطير يستحق الإعدام؟
قادت عقود “العلمانية” و”الوحدة الوطنية” إلى انتشارٍ واسع للتيارات الدينية، مع هيمنةٍ واسعةٍ للطائفية على مجمل الحياة السياسية في سورية.
وعقود “التوازن الاستراتيجي” الذي شكل نافذة للصرف اللامحدود والعبثي من خزينة الدولة، ولكسب الولاءات الشخصية، وإفساد ضباط الجيش، (70% من ميزانية الدولة مخصصة للجيش والقوات المسلحة، بحسب الأرقام الرسمية) انتهت إلى عجز عسكري أمام العدو الإسرائيلي الذي كان يحلّق بطائراته بكل حرية، ويستهدف ما يشاء في سورية، حتى قبل اندلاع الانتفاضة السورية.
للتذكير، في العام 2003، حلقت مقاتلات إسرائيلية فوق القصر الجمهوري الصيفي في اللاذقية، وضربت معسكر عين الصاحب قرب دمشق التي لم تمتلك القدرة، ولا الإرادة، على الرد. غير أن النظام يقول سراً: إننا، ببساطةٍ، لا نستطيع مواجهة إسرائيل، ومن يطالبنا بتحرير الجولان، أو بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية، إنما يريد لنا الهزيمة والسقوط. التوازن الاستراتيجي، إذن، لم يكن سوى ستار للنهب والتخريب الاستراتيجي.
وفي الشأن الداخلي، يقول سراً: إن كل مسعى لتغيير النظام، تحت يافطة علمانية أو إسلامية، لا يصدر سوى عن حسدٍ لأهل السلطة. ولذلك، يتكرّر القول إن المعارضين هم “طلاب سلطة” لا أكثر. لا شك أن هناك انتهازيين لا يبتغون سوى تحقيق المكاسب. لكن، لا تبدو السلطة لأهل النظام إلا كما هي سلطتهم، مقراً للفساد وفرصة لتنمية المصالح الشخصية والعائلية، فيبدو، بالتالي، طلب السلطة عيباً وحسداً، وتطاولاً على “حقوق مالكي السلطة الوراثيين”.
العربي الجديد – راتب شعبو