كان جليسي إعلاميا سابقا وهو مسؤول حكومي اليوم، ومن بين المؤسسين لاتحاد إذاعات الدول العربية، يدرك خفايا “اللعبة الإعلامية” بذكاء وعن تجربة، لا يعد نفسه صحفيا اليوم لكنه يحترف التعامل مع الصحفي لذلك لن يفرط بمعلوماته إلا إذا أراد لأنه في كل الأحوال يمثل حكومة بلاده التي تواجه كل ما يثار حولها بهدوء غريب بحجة الوسيطة، مع أن الدول مطالبة بموقف عندما يتطلب ذلك، بينما هم ينظرون بعين ثابتة لكل القوى مهما كبر حجمها أو صغر.
الإعلام في بلد جليسي ببساطة صورة مكررة بين الأمس واليوم، ومن البساطة بمكان ألا يشعر القارئ بفروق شاسعة وهو يضع على الطاولة أعدادا لصحيفة صدرت قبل خمسة أعوام مع أعداد نفس الصحيفة التي صدرت اليوم في ذلك البلد. التعبير لم يتغير ومصدر الخبر لم يتغير وطريقة المعالجة لم تتغير، مع أن العالم تغير والإعلام من بين أكبر عوامل التغيير بحكم الانفتاح الرقمي وسقوط حارس البوابة.
لا أحد من المسؤولين في ذلك البلد يسأل السؤال التقليدي “هل تُقرأ صحفنا؟” ربما يدرك في قرارة نفسه الجواب الصادم لذلك يخفي السؤال.
لكن ماذا فعل “المواطن الصحفي” كي يخرج رأس المسؤولين في تلك البلاد من الرمال. إنه يتحرك بحرية ومن دون خوف لرصد الحياة وتداعياتها والإشارة إلى الخلل والاحتفاء بالإنجاز بغير طريقة الإعلام الرسمي الميت.
وعندما سألت جليسي عن العين الرسمية، هل تتأمل المواطن الصحفي وتقرأ ما يكتبه، على الأقل لاكتشاف إن كان ثمة خلل غاب عن حكومة بلاده، فمثل هذا المواطن شاهد لا يقبل اللبس لأنه ينقل المعلومة والصورة من مكان الحدث.
كانت إجابته صادمة بقدر لا يمكن تصديقه من رجل خبرَ دور الإعلام بقوله “قد نسمع مثل تلك الأصوات، لكننا لسنا مضطرين للتعامل معها أو الرد عليها!”.
بدأ جليسي يشرح وجهة نظره بطريقة أن أدوات التواصل الاجتماعي أضحت بيد كل الناس للتعبير عن آرائهم والكتابة عما يرونه أمامهم، لكن حكومة بلادي غير مضطرة للرد على مثل هذا الكلام حتى وإن كان جادا، مع أن غالبية ما يتم تداوله يوضع في سلة الهراء. المفاجأة بالنسبة إلي ليست طبيعة الرد، لأن المسؤول في بلادنا يفكر بعقلية الحكومة، وجليسي اليوم عقل حكومي بامتياز، المفاجأة تكمن بحساسية الإعلامي في داخله التي لم تكن سوى هامش للمناورة والتحرك لمعرفة قواعد اللعب مع وسائل الإعلام.
بشكل عام يتفاءل الصحفي عندما يجد زميلا له تقلد منصب ناطق باسم الحكومة لأنه سيجد عقلا إعلاميا يتفاعل معه وليس شخصا طارئا على المنصب، يتفاءل لأن الزميل السابق وصوت الحكومة الحالي سيزوده بالمعلومة، فالناطق باسم الحكومة اليوم كان يطالب بالأمس بصفته الصحفية بحرية تداول المعلومات وها هو اليوم يمتلك مثل تلك المعلومة فلماذا لا يتسق مع قناعاته ويزود زملاء الأمس بها؟
لكن واقع الحال في بلداننا العربية يكاد يوصف بالخيبة، فالناطقون باسم حكوماتنا يتصرفون بعقلية “رجل الأمن” أكثر من كونهم واسطة تقارب بين الحكومة ووسائل الإعلام.
بينما اليستر كامبل يمنحنا صورة معبرة عما يكونه السكرتير الصحفي للحكومة، فهذا الإعلامي لعب دورا رئيسيا في مساعدة حزب العمال البريطاني بالعودة إلى السلطة بعد انتخابات عام 1997، وأصبح في زمن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير كبير المتحدثين باسمه، والمنسق الرئيس بين الحكومة ووسائل الإعلام.
حينها أعاد بوصلة علاقة الحكومة مع وسائل الإعلام، ووصف بكبير السحرة في معبد الإعلام في زمن بلير حتى استقالته احتجاجا على احتلال العراق عام 2003.
كامبل يؤكد أن الجمهور ممثلا بالمواطن الصحفي وجيل الشباب الجديد، سيسلب السلطة من أباطرة الإعلام والصحف الكبرى بسبب ارتفاع الوعي العام وتنوع مصادر جديدة للمعلومات، ويرى أن العلاقة بين الصحافة والجمهور تتغير إلى حد كبير لصالح الجمهور، الأمر الذي يفرض المزيد من التحديات أمام الصحف.
مثل هذا الناطق باسم حكومة بلاد يمتلك فيها الإعلام سلطة كشف الفساد وإسقاط الحكومات، طالب السياسيين بإزالة الاعتقاد الشائع عن الصحافة كمصدر وحيد للأخبار بسبب تغير دورها وتنوع مصادرها.
وبودي لو يستفيد جليسي “المسؤول الحكومي” وزملاؤه الناطقون باسم الحكومات العربية من مثل هذه النصيحة.
العربكرم نعمة