جاء الانقلاب العسكري الذي أعلن عنه في تركيا قبل أسبوعين، ليثير فينا ذكريات صعبة تعود إلى فترات متعددة من القرن المنصرم، كان البعض يدعوها فترات الانقلابات العسكرية منذ انقلاب أديب الشيشكلي وغيره، وكان ذلك قد ظهر بمثابة خط فاصل بين تأسيس مرحلة الاستقلال الوطني عن الاستعمار الفرنسي وبين ما سيؤدي إليه الوضع اللاحق في سوريا. وتهمنا هنا تلك المواصفات التي حددت مرحلة ما بعد ذلك الاستقلال الوطني، وقد نعمم ذلك، ولو جزئياً، على بلدان انتمت في حينه إلى “العالم الثالث” مقابل العالمين الأول والثاني في النطاق الاقتصادي والسياسي الثقافي، الرأسمالي من طرف والاشتراكي من طرف آخر، هكذا، تبلور الموقف في حينه عالمياً.. ويلاحظ أن “العالم الثالث” وقف بين ذينك النظامين، مُتمسكاً بما ظهر في حينه تحت دعوى “الحياد” أو “الحياد الإيجابي”، واستمر ذلك قائماً طيلة وجود النظام الاشتراكي (الاتحاد السوفييتي) ومنظومة المعسكر الاشتراكي.. ومع تفكك الاتحاد السوفييتي تفكك معه النظام الاشتراكي كله، وكان ذلك بمثابة عودة إلى الخريطة العالمية السابقة.
أما الحديث عن الجيوش غير العسكرية وعن الانقلابات العسكرية فعاصر الحضور العالمي للمعسكر الاشتراكي، الذي قدم نفسه، بصفته نصيراً وحليفاً للعالم الثالث، وقد حدث أن النزوع إلى الشمولية ظهر في النظام السوفييتي، بحيث راح يضعفه، مترافقاً مع ظاهرات أخرى مثل هيمنة الحزب الواحد والأيديولوجيا الشمولية وغياب الديمقراطية البرلمانية، وغير ذلك! وقد أثر هذا في بنية البلدان المنخرطة في العالم الثالث بحيث هيمن فيها مثل ذلك التهيكل بعد أن وصلت إلى السلطة في بلدانها، محتذية، بقدر أو آخر، حذو البنية السوفييتية، منطلقة في ذلك من مناصرة الاتحاد السوفييتي في مواجهة نسبية للعالم الرأسمالي.
إن الحديث هنا يدور على الجيش والحزب القائد في البلاد العالم- ثالثية ومنها البلدان العربية في حينه (مصر والعراق والجزائر وسوريا واليمن وغيرها)، وقد نشأت في هذه البلدان وبدرجات مختلفة جيوش متأثرة بنمط الجيش السوفييتي والجيوش الاشتراكية الأخرى، مع نشوء أحزاب وقادة أحزاب أحادية، ومع نظم سياسية لا تخضع غالباً لتقليد التداول في السلطة وغيرها، وبالمناسبة كان لذلك تأثير على البلدان التي نحت -بالعموم- نحو الاتحاد السوفييتي.
ومع غياب المراقبة الديمقراطية، بقدر أو بآخر، نشأت مفارقات من نمط: الحزب الذي يخضع أولاً للقائد، دون ضوابط أخرى تتحدد بضبط السلطات الثلاث الكبرى التشريعية والقضائية والتنفيذية، وغياب الانتخابات البرلمانية، والرقابة من قبل مرجعيات الدول والقضاء وغيره من مؤسسات المجتمع.
وقد أسهم ذلك في اقتحام الجيوش عالم السياسة، ما أنتج حالة من ارتباط الجيش بالقيادة السياسية على حساب الخصوصية العسكرية في تلك الجمهوريات، وهذا بدوره راح يضعف الجيوش الوطنية (ومنها العربية) بحيث أصبح الانتماء العسكري تابعاً للمسؤول الحزبي، وبحيث أنتج ذلك تفكك البنية العسكرية، وجاءت الارتباطات بين عسكريين كبار ومؤسسات اقتصادية غير مراقبة وفق ضوابط اقتصادية وطنية، لتعمل على تفكيك البناء العسكري الذي يربط العسكريين بمؤسستهم! ومع ازدياد الفساد المالي والاقتصادي والسياسي، وجد الجيش الوطني المعني نفسه تابعاً لأشخاص ذوي حظوة مالية، بعد دخول الجيش في حال من الهُزال العسكري، وهكذا نشأت ظاهرة تتمثل في تحول قادة عسكريين إلى مديرين لمؤسسات اقتصادية مالية وصناعية وغيرها، ما أدى إلى ظهور وليد جديد في حاضنة مغايرة! وهذا ما أفضى إلى مصطلح “الجيش غير العسكري” الذي سيكون حاضراً، مع حضور المصالح والمهمات المالية خصوصاً.
لقد ابتلي الجيش في العديد من جمهوريات العالم العربي ببلاء نزع هويته العسكرية الوطنية، لتضفي عليه مسحة تجارية ومالية ومصلحية حزبية وشخصية، وربما كذلك من مواقع أخرى لا تتوافق مع صفات ثلاث تجعل منه جيشاً جديراً بأن يكون جيش وطن، ونعني صفات الوطنية والعسكرية والأخلاقية. لقد نشأت تلك الجيوش اللاعسكرية، إذن في “العالم الثالث” فأضعفت المناعة العسكرية والوطنية والأخلاقية فيها، إضافة إلى بروز نزعات طائفية ومذهبية وربما عرقية فاسدة، بحيث تشكلت أرضية خصبة لبروز ذلك النمط من الجيوش “العاجزة”.
وقد وجد بعض جمهوريات العالم العربي والعالم- ثالثي نفسه أمام فخ تفكك جيوشه الوطنية على ذلك النحو، وكذلك حيث أصبح الأمر يحتمل ظهور انقلابات عسكرية تعود بالوطن إلى الوراء، وتؤسس لحالة من الضعف البنيوي الشامل والماحق، بحيث يصبح أمام حالة مأساوية فظيعة وتدخلات خارجية سلبية، وهذا ما يمثل بجدارة وقوة في المقولة المنهجية السياسية المتمثلة بـ”جدلية الداخل والخارج”، إنه درس للعالم العربي كله ينبغي أن يتعلمه ويطبقه لتلافي حالة واسعة من المخاطر والاستباحة، وخصوصاً الآن، حيث أصبح معظم العالم العربي مستباحاً للأسف الشديد.
الاتحاد