من لم يرَ خراب حلب لن يدرك معنى الخراب.
هذه الانفجارات اليومية لأوعية المدينة وشرايينها، وهذا الدم المُرسَل متخثّراً ومختلطاً بالأتربة البيضاء، على وجوه العابرين فيها والمقيمين. حجرٌ وبشرٌ وعددٌ لا يُحتمل من الأطفال الموتى والراقدين تحت التراب، كأنّ بطن الأرض، كلّما اهتزّت، أو أجفلت، بصقتهم إلى العراء، وكلما انهارت عمارةٌ، أو دُكّ بناء، كانوا هناك.
من لم يرَ الصمتَ الذي يسوّر دمارَ حلب لن يدرك معنى الفظاعة.
صمتٌ معدنيٌ حادّ يخرق جدارَ صوت الطيور الفولاذية التي تحوّم في الفضاء، لتبصق نيرانها المستعرة على تاريخ أقدم مدينة في العالم، لم تزل مأهولة إلى الآن. صمتٌ يزن أطناناً، يُطبق على صدر المدينة، وقد أطبقت عليها غربانُ الكراهية السوداء، وطيور الحقد الأعمى تنقد بمناقيرها المسنّنة كبدَ الحاضرة – المأساة.
من لم ير وجع حلب لن يدرك معنى الفجيعة.
من تحت الركام، من قلب المقبرة ومن سابع أرض، فلتدركوا، مرّة أخيرةً ونهائيةً، أن الخارطة محفورة ههنا، على الصدور العارية، وأنها، وإن أُفنيتْ، أيها القتلة المجرمون، باقيةٌ هناك، مغروزةً، في اللحم، في الجينات. ولتدركوا، مرةً أخيرة ونهائية، أنها لن تكون لكم، هذي البلاد. أيها اللصوص الجناة المستبدون، هذا ليس نبعكم ولا الماء، هذي ليست أسرّتكم، ولا هي مفاتيحكم، ولا هنا ترابكم الأخير أو مدافنكم. حتى قتلى، لا نريدكم فيها، حتى خاسرين ممرّغين بوحول الإهانة والسوء، لا نريدكم معنا. عابرين ستظلون على سطح التاريخ، دمامل لن يلبث الوقتُ أن يفقأها، وباءٌ يسمّم سنابل أيامنا، لكنّ ريحاً مقبلة لن تلبث أن تذريه.
*
المرة الأولى التي ظهرت فيها عبارة “جريمة ضد الإنسانية” كانت خلال الحرب العالمية الأولى، بسبب جرائم الإبادة التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن، عام 1915، حين ندّدت روسيا وفرنسا وبريطانيا بتلك المجازر، معتبرة أنها “جرائم ضد الإنسانية والحضارة”.
وفكرة الجريمة ضد الإنسانية جاءت ردّ فعل على الأفعال غير الإنسانية التي لا ترتبط بأخطاء، أو بأعمالٍ عسكرية، كجرائم الحرب على سبيل المثال، وإنما تلك الهادفة إلى قتل أو اضطهاد التجمعات المدنية التي تشكل عائقاً في وجه سلطة. وقد يتم استهداف الإنسانية بجرائم، من غير أن تتخذ تلك شكل إبادةٍ لمجموعةٍ بشرية.
أفضل من عبّر عن هذا المفهوم هو أندريه فروسّار، الصحافي والباحث والأكاديمي الفرنسي، حين قال “الجريمة ضد الإنسانية هي قتل أحدٍ ما بذريعة أنه قد وُلد”. وتهمة الولادة تعيد إلى كل ما هو طبيعي في الكائن البشري، أي الى كل ما يعدو كونه خياراً لديه: الطبقة الاجتماعية، التعليم، الدين، الانتماء الإثني، إلخ، ومعناه أن هذي الجرائم إنما تستهدف إنسانية الفرد والمجموعة الملحق بها، عبر تجريد الضحية من قيمتها الإنسانية وكرامتها وحقوقها، وهذي الأخيرة هي، في الأصل، دوافع ارتكاب تلك الجرائم، وليست من عواقبها. ومعناه أن باعث الجريمة ليس خارجاً عن الجريمة، بقدر ما هو الجريمة نفسها.
*
لا أعتقد أن هناك مأساة بعد مأساة الشعب السوري اليوم. الأرقام تحكي. والصور تحكي. والَمشاهد المصوّرة تحكي. أما البشرية فصمّاء. أما الضمائر فنائمة. فيما أصبح السوريون مشرّدي هذي الأرض وملعونيها، وأرقام الضحايا والجرحى إلى ارتفاع. من السماء، تأتي اللعنة، قصفاً وبراميل وصواريخ تدخل سابع أرض لتنبش المختبئين هلعا. الجريمة ضد الإنسانية باتت جرائم تعاد وتُكرر، على مرأى من البشرية جمعاء. ما الذي يمنع صوت العالم إذاً من أن يعلو اعتراضاً؟ ما الذي يكمّ أفواه المنتفضين عادة، والمدافعين عن حقوق المقهورين والمظلومين؟ لماذا لم تتحرّك المجتمعات المدنية، لماذا لم تسر مظاهرات؟
الوقائع كلها هنا، تحت مرأى العين، في متناول اليد. هناك من يقتل المدنيين كل يوم، من يحاصرهم ويشرّدهم، لأنهم لا يطابقون رؤيته لما ينبغي “للشعب” برأيه أن يكون. وهناك من يحالفه في هذا، فيأتي ليضرب أرضاً ليست أرضه، وشعباً ليس شعبه. الأمر بهذه البساطة، أجل، وبهذا الوضوح…
الجريمة ضد الإنسانية؟ إنها خاصة، وأيضاً كل هذا الصمت المشين.
العربي الجديد – نجوى بركات