بين معركة الرقة التي تلوح في الأفق، والمعارك التي تخطّط روسيا لشنها في مناطق عدة في سورية، وعلى خلفية التفجيرات التي قام بها تنظيم “داعش” في الساحل السوري وردة الفعل الطائفية، وبالتوازي مع التحضيرات لاقتحام مدينة الفلوجة، يبدو أن العنوان الواضح للحرب في المرحلة المقبلة سيكون التطهير الديمغرافي من دون رحمة.
تتغير أهداف الصراع في المنطقة وتتحرّك بشكل دائم، لدرجة يبدو معها هذا التغيّر المعطى الأكثر وضوحاً في فوضى المنطقة، ويبدو أن هذا التغيّر هو نتاج التطورات التي تحصل في قلب هذا الصراع سواء على مستوى الفاعلين وإمكاناتهم وظروفهم، أو لمدى ملاءمة هذه المتغيرات مع التحديثات التي يجريها الفاعلون على إستراتيجياتهم والتكتيكات التي يتبعونها في إدارة الصراع والأزمة في الوقت ذاته.
ورغم الفارق العلني بين الإستراتيجيتين الأميركية والروسية، إلا أنهما في هذه المرحلة تتقاربان إلى حد التناسخ في بعض المفاصل، سواء على صعيد الأهداف المتداخلة أو في التكنيك الذي يجري استخدامه في تصريف تلك الأهداف، ففي الوقت الذي تحصر إدارة أوباما أهدافها في المنطقة بمحاربة تنظيم “داعش” من دون الالتفات إلى أي تفصيل آخر في التشابكات المعقدة في أزمة المنطقة، تصّر روسيا على محاربة ما تسميه الإرهاب في سورية من دون النظر أيضاً الى الحقائق الصلبة على الأرض، وكذلك يسعى الطرفان إلى تحقيق أهدافهما باستخدام أدوات ذات طبيعة إشكالية في الصراع القائم، مثل اعتماد أميركا على الأكراد واستناد روسيا على إيران وأذرعها في إنجاز مهمتها.
لا شك في أن ذلك ينطوي على معان عديدة أهمها، أن إدارة الأزمة بهذه الطريقة ليس الهدف منها الوصول إلى تسويات سياسية حقيقية لصراعات المنطقة، بقدر ما تهدف إلى إعادة صياغة هيكلة المنطقة جغرافياً وديموغرافياً، والهدف من وراء ذلك إيجاد مخرج للقوى الكبرى من هذا الصراع ينهي مسؤوليتها، الأخلاقية والقانونية، بدرجة كبيرة عن المذبحة التي حصلت تحت ظلال تنافسها الجيوسياسي ويعيد ترتيب عناصر الصراع ونقلها من خانة الصراع السياسي الداخلي إلى صراع بين مكونات مجتمعية وكيانات طائفية وعرقية.
وفي ظل هذا النوع من الصراعات يسقط الكثير من المحظورات والمحرّمات الدولية، وخاصة عمليات التطهير الديموغرافي التي يتم احتسابها في إطار الصراع على المواقع والموارد والحدود ويجري إخفاء الفاعل فيها، وتنتهي بالاحتكام إلى الوقائع الأرضية والمساحات التي يستطيع كل فريق الاستحواذ عليها وتثبيت سيطرته فيها.
على ذلك، فإن الإستراتيجيتين الروسية والأميركية، ومن خلال سعيهما لتحقيق أهدافهما في المنطقة، تصنعان محفزات لدى أدواتهما للقيام بعمليات التطهير العرقي والطائفي، ذلك انه سيتم دمج هذه الأفعال ضمن هدف محاربة الإرهاب، ما يعني أن المرحلة المقبلة ستشهد ضغطاً على الجغرافيا التي يسكنها المكوّن الأكثري في سورية، وستشكل ذريعة القضاء على الإرهاب مساحة خطرة للمناورة والتغطية على أهداف أخرى، خاصة أن الطرفين الكردي والإيراني لا يخفيان أطماعهما الإقليمية في سورية والعراق.
لطالما واجهت إدارة أوباما منتقديها بترددها في التدخل بالأزمة السورية، بأن سبب موقفها هذا هو محدودية الخيارات التي تدفعها إلى الحذر من إحداث تغييرات من شأنها جلب الفوضى إلى سورية، وكذلك قالت روسيا إنها لا تؤيد بشار الأسد لكنها لا تريد حصول فوضى، لكن الطرفين يجريان تعديلاً على مقارباتهما للأزمة بحيث يبدآن ما يعتقدان أنه يشكل العلاج من أحد أخطر نتائج الفوضى وهو التطهير الديموغرافي للأكثرية العربية والسنية ما يدفع إلى التساؤل عن طبيعة تعريفهما للفوضى التي كان يقصدانها، وما هي الصيغة التي يرتبانها لسورية؟
لعل الغريب في الأمر أن أغلب أدوات هذه المرحلة مصنفة إرهابية مثل “وحدات حماية الشعب الكردي” التابعة لـ “حزب العمال الكردستاني” والأحزاب الشيعية المنضوية تحت قيادة قاسم سليماني، وهي التشكيلات التي سيتم الاعتماد عليها لإنجاز المهمتين الأميركية والروسية في سورية والعراق، والمعلوم أن هذه التشكيلات لا تتورع عن القيام بما هو مخالف للقوانين والأخلاق، بل أن البنية التي تتأسس عليها هذه التشكيلات والعقيدة التي تؤمن بها والتكتيكات التي تستخدمها لا تنتج سوى سلوك إرهابي، كما أن لها أهدافاً قومية وطائفية تتعارض مع مصالح الأغلبية ولا تتحقق إلا عبر إحداث تغييرات واسعة تشمل إعادة توزيع السكان والجغرافيا.
ولعلّ ما يرجّح احتمال حصول عمليات تطهير عرقي وطائفي واسع في المرحلة المقبلة، هو المناخ المتوتّر الذي ستتم فيه عمليات “التحرير” المزعومة، ذلك أن القرار الذي يؤسّس لهذه العمليات يجري بناؤه على سياسات رد فعل وعمليات انتقام مع وجود مكوّن انتهازي واضح، ففي الوقت الذي تريد إدارة أوباما أن تجعلها العتبة التي تؤمن فوز مرشح ديموقراطي ونافذة لخروج مشرف لأوباما، تريد روسيا جعلها نوعاً من استعراض القوة رداً على تشغيل منظومات الصواريخ الغربية في رومانيا، فيما تسعى القوى الشيعية للرد على هجمات بغداد وخسائر خان طومان ومقتل قادة كبار، وتعتقد القوى الكردية أنها ترّد على رفضها من المعارضة السورية والقوى الإقليمية كقوى مفاوضة.
الحياة