دومًا، يظهر المسؤولون الأتراك وكأنهم يحاولون تصوير أنفسهم على أنهم دعاة لسياسة حسن الجوار والابتعاد عن المكائد والتدخل في شؤون الدول الأخرى، وبالتمعن بمحاور السياسة الخارجية التركية منذ تأسيس الجمهورية وحتى يومنا هذا، نلاحظ وبسهولة أن تركيا، بالفعل، تحرص على تطبيق مبدأ “سلامٌ في الداخل “داخل الحدود القومية لتركيا”… سلامٌ في الخارج “خارج الحدود القومية لتركيا”.
يُظهر التسلسل التاريخي للسياسة الخارجية التركية أن الحكومات التركية المتتالية اتبعت منهجية هذا المبدأ، ولم تخرج عن إطاره سوى مرة أو مرتين، حيث شاركت عسكريًا في حرب كوريا “1950 ـ 1952″، وقامت بعملية عسكرية سيطرت بواسطتها على مساحات واسعة من جزيرة قبرص “1974”، وحتى هاتان العمليتان تم تسويغهما على أنهم في إطار نشر السلام، وعندما بدأت ثورات الربيع العربي ترددت تركيا كثيرًا في دعمها سوى إنسانيًا، وبعد دعمها، تجنبت الاصطدام الدبلوماسي والعسكري المباشر مع الدول المضادة لها كروسيا وبعض دول الخليج، إلا أن إيران التي حظيت ببعضٍ من محاولات تركيا لتجنيب العلاقات الرابطة بينهما تداعيات الصدام الميداني، لم تنعم طويلًا بهذا الوضع وتحولت مضربًا للاتهامات والهجمات التركية الإعلامية، بذريعة أنها “داعمة للإرهاب وراعيةً له”.
بداية الهجوم الإعلامي التركي الفج ضد إيران، كان متزامنًا مع إعلان التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية عملية “عاصفة الحزم” بتاريخ 26 آذار/ مارس 2015، ضد الحوثيين والجيش الموالي للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في اليمن، حيث صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينذاك بأن “التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول الإقليم تجاوزت كل حدود الصبر، داعيًا إيران إلى “سحب مجموعاتها الإرهابية من اليمن”.
وربما من الصواب تفسير تلك التصريحات على أنها كانت رغبة من تركيا لإعادة اللُحمة مع دول المنطقة، لموازنة السياسة الأمريكية والروسية التي كانت تصب في الصالح الإيراني، أيضًا يمكن ترجمتها على أنها مطلب تركي لإعادة الاستقرار والتوازن في المنطقة بعد تعرضهما لحالة تقوّيض شديدة نتيجة سياسات إيران. وفي سياق ذلك، يمكن القول بأن المطلب التركي لإعادة الاستقرار والتوازن في المنطقة ما زال ينفع لأن يكون أحد العوامل التي دفعت تركيا مؤخرًا للتصريح بأن “إيران تدعم الإرهاب”، ولكن تكشف التطورات الجارية النقاب عن وجود عدد من مؤشرات الخلاف بين إيران وروسيا، كما أن إيران تتعرض، اليوم، لهجمة أمريكية شرسة، فما هي دوافع تركيا لرفع وتيرة تجاذبها الإعلامي والدبلوماسي مع إيران، واتهامها بأنها “الراعي الأول للإرهاب؟”، وما الذي تطمح إليه تركيا من وراء ذلك التجاذب؟
ـ دوافع وآمال تركيا من الهجوم الإعلامي:
لا شك أن البراغماتية “سياسة الضروريات النافية لبعض المبادئ مؤقتًا” التي تتحلى بها السياسة التركية هي الدافع الأول وراء تلك التصريحات، وتعني البراغماتية بأن تلك التصريحات مؤقتة وقد لا تطول طويلًا، نظرًا لحجم الترابط الاقتصادي والاجتماعي الذي يجمع بين إيران وتركيا، ويأتي هذا التحرك التركي البراغماتي وفقًا للدوافع التالية:
ـ لفت انتباه الولايات المتحدة التي تهاجم إيران، من أجل كسب إمكانيات التوافق معها لإجراء عملية تحرير الرقة بشكل مشترك وبمعزلٍ عن قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل قوات الحماية الكردية وتدها الرئيس. أيضًا تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية من سياسة التحالفات الإقليمية التي على ما يبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة ضالعة في تنفيذها في الآونة المقبلة، لتقليم أظافر إيران، وإعادة الاستقرار الإقليمي الذي ترى أنه يعود على مصالحها بالنفع الأكبر من سياسة نشر الفوضى التي كانت متبعة وبوضوح من قبل الإدارة الأمريكية السابقة.
ـ توفير جسر يحرز تعاون وثيق بينها وبين دول الخليج لإنجاح خطتها في تأسيس صندوق لتمويل إقامة المناطق الآمنة، وربما الجولة الأخيرة التي بدأها أردوغان من البحرين التي تقاسي من تدخل إيراني يزعزع أمنها واستقرارها، أعطت إشارة واضحة على رغبة تركيا في الوقوف، ولو بشكل مؤقت، إلى جانب دول الخليج ضد السياسة الإيرانية التي هاجمها أردوغان متهماً لها “بالنزعة القومية الفارسية المهددة لأمن المنطقة”. تلتمس تركيا بتقاربها من دول الخليج في المرحلة الحالية على وجه الخصوص، تحقيق تقاسم للأعباء عبر الحصول على الدعم المالي الطائل الذي يُقنع الرئيس ترامب بقبول فكرة إنشاء المناطق الآمنة، وإشراك قوات عربية لتحرير مدينة الرقة، كما ترمي إلى استعادة عافيتها الاقتصادية بواسطة التعاون الاقتصادي الوثيق بينها وبين دول الخليج، لا سيما في ظل تراجع التوافد السياحي الغربي والروسي إليها، وتدني معدلات صادراتها الخارجية، وتهاوي معدلات العملة الصعبة الفاعلة في بورصتها، وربما تفسر تلك الأهداف ما دفع تركيا لرفع نبرة تصريحاتها الإعلامية ضد إيران.
ـ تشكيل مناخ ضغط عالمي ضد إيران، لدفعها نحو عملية الحل السياسي التي تسعى تركيا مع روسيا لتطبيقها بشكل سريع، بغية حل الأزمة السورية وإعادة الاستقرار الإقليمي للمنطقة، ذلك الاستقرار الذي لطالما وفر البيئة المناسبة لنمو تركيا وتنميتها.
ـ حدود التصعيد الإعلامي التركي:
مهما بلغت حدة التصعيد التركي إزاء إيران ستعود لتخبو، فسقف هذا التجاذب يُملي على تركيا عدم خسارة إيران، لعدة عوامل:
ـ العامل العراقي؛ ذلك التجاذب يدفع إيران إلى الاستفحال في سياستها داخل العراق، وبالأخص في مدينة الموصل الجاري تحريرها، ولذلك نتائج سلبية على تركيا التي تحاول قدر الإمكان قضم التواجد الإيراني هناك، لا سيما التواجد الإيراني غير المباشر، أي عبر الميليشيات الشيعية، الذي قد يصل إلى الحدود التركية.
ـ التخوف من ردة الفعل؛ الفعل القوي لا يعود إلا بردة فعل قوية، ويتمثل هذا التخوف في إمكانية دفع إيران بقوات الحشد الشعبي نحو مدينة الرقة لمساندة القوات الكردية، أو دعم القوات الكردية بشكل مباشر، فتركيا تسعى لتنفيذ عملية تحرير الرقة من خلال قوة عربية تخضع لجناحها، والتمادي في مواجهة إيران قد يحول إيران إلى عائق أساسي أمام هذه القوة.
ـ العنصر الروسي؛ المحور الروسي الإيراني ما زال قائماً، وترى روسيا أن التقارب الجاري بين تركيا والولايات المتحدة لا يصب في صالحها، واستمرار تركيا بمهاجمة إيران قد يؤثر سلباً في النظرة الروسية لتركيا، حيث قد تبدو تركيا غير صادقة في محاولتها لتعجيل عملية الحل عبر التعاون المشترك بينها وبين روسيا وإيران.
ـ انهيار عملية الحل السياسي؛ كما اُسلف آنفاً، تركيا تأمل من خلال التعاون مع روسيا في عملية الحل السياسي تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، وإقرار محاور حل بعيدة عن التوجه المذهبي الذي تظهر روسيا بمظهر الرافض له، وانهيار تلك العملية تُعد خسارة كبيرة لتركيا.
إذاً، تأمل تركيا في تحقيق بعض النقاط من خلال هجومها الإعلامي على إيران، إلا أن الحدود التي تحدد سقف هذا الهجوم، قد تحيلها دون الاستمرار على ذات النهج، وعلى الأرجح قد تخبو الهجمات الإعلامية التركية ضد إيران عقب اتضاح معالم السياسة الأمريكية حيال منطقة شرق الأوسط عامةً وسوريا خاصةً.
جلال سلمي – ترك برس