التحرك السعودي التركي الأخير، أوحى بإمكانية تدخلهما عسكريا في سوريا وسط مؤشرات متصاعدة تؤكد ذلك، فهل بات ذلك التدخل وشيكا، وما أهدافه إن حصل؟
والواقع أن أحد أبرز الأسئلة المطروحة حاليا في المشهد السوري يتعلق باحتمالية حصول هذا التدخل وجديته بغض النظر عن إعلان المحاور والحلفاء الذي يستخدم لوجستيا أو سياسيا، في دعم هذا الطرف أو ذاك، دون وجود إمكانية أو نية جدية للتدخل البري.
أما السؤال الثاني فهو كيف سيكون هدف هذا التدخل لو حصل بالفعل، هل هو لتغيير ميزان عسكري جغرافي في منطقة حلب، أم لتعزيز ميدان الثوار في كل الشمال، فتُحيّد عنهم داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) والنظام وتسمح بتقدمهم، وتساعدهم في رص صفوفهم، وبالتالي التقدم نحو دمشق، وكيف سيتم ذلك؟
“أمام التواجد الروسي الضخم في الجو، وقراره السياسي الحاسم بتصفية الثورة السورية تضامنا مع إيران، من الصعب تقديم تحليلات موضوعية مباشرة، دون بروز الجهد العسكري التنفيذي على الأرض، ولكن تفكيك الحالة والواقع الإستراتيجي ونظريات الدول لمصالحها القومية، قد يساعد على فهم مسار المعركة”
من المهم أولا أن ندرك أن حجم القناعة في التحالف الثنائي بين الرياض وأنقره، غير مسبوق، وأنه يتطور بوصة كبيرة جدا، ولا تؤثر عليه التفاصيل، أو الملفات الأخرى، في بنائه الثنائي الذاتي.
وهناك سؤالان تحت هذه القاعدة، ما هو السر في تقدم الموقف السعودي، وهل سيباشر عملا تنفيذيا على الأرض، ولماذا تراجعت أنقره خلف الحليف السعودي الجديد، ولم تُسابقه أو تتقدم تنفيذيا لتهيئة ساحة العمليات، هل هو اضطراب وخشية ذاتية من المستقبل عموما ومستقبل حزب العدالة خصوصا، وخشية من تجربة الأستانة مع قرار الحرب العالمية.
وانطلاقا من ذلك تصر أنقره على أن جغرافية التغيير تتركز فقط حول ردع الحالة الكردية عن حدودها، وإبعاد إمكانية تنفيذ وقيام إقليم كردستان السوري على الأرض.
هل هذه التحفظات والصمت عن التفاصيل تأتي لأسباب الحفاظ على سرية المعركة، أم لوجود أزمة في اتخاذ القرار التركي؟ ولكن الواقع أن الخوف والاضطراب الذي قد يأتي في توقيت دقيق، يزيد من خسائر تركيا وهي التي تأخرت في تنفيذ المنطقة الآمنة.
فأنقره لم تواجه عملية إسقاط الجيش السوري الحر، التي ساهم فيها بعد مخابراتي وبعد شعبي ديني خليجي، استفاد منه الأسد، بدلا من دعمه وإعادة هيكلته مع الفصائل الإسلامية، ليشكلا قوة عسكرية جامعة للثورة السورية. وبالتالي فالتقدم الموسمي لجبهة النصرة، لم يُحقق أي توازن إستراتيجي لأمن الثورة ولا لأمن تركيا.
أما الطرف السعودي فالأسئلة هنا تخص خشيته من هذا الحصار الغربي الشرس، الذي يُصر على تحميله مسؤولية التطرف وجرائم داعش، في حين شارك الغرب بقوة في تفجير ملف التطرف بغزو العراق وبدعم تثبيت الأسد ورفض سقوطه في بداية الثورة.
ثم لاحقا دعم قرار موسكو وإيران لتصفية الثورة السورية، قبل أن تعود حسابات البيت الأبيض من جديد وأوروبا لبعض المراجعة، لا خشية على مدنيي سوريا، ولكن خوفا من انفجار للشرق، أكبر مما أعدوا له مع إيران.
وبالتالي أدركت الرياض مؤخرا -في ظل العهد الجديد- أن الغرب لن يتنازل عن معادلة إستراتيجية جديدة مع إيران، مقابل موسم آخر مع دول الخليج التي أبدى بعضها بالفعل استعداده للخضوع لخليج الكرملين الجديد مع ولي الفقيه شراكة مع البيت الأبيض العتيق.
ويجب أن نتوقف جيدا أمام موقف المرشحين الثلاثة للحزب الجمهوري الذين عارضوا الموقف السعودي الجديد، والحملة الشرسة من اللوبي السياسي في الصحافة الغربية ضد وزير الدفاع، وتأكيد معارضتهم لمشروعه تحويل السعودية إلى محور صانع لا تابع، رغم كل ما يقدمه سلوك الدبلوماسية السعودي من استعداد لتفاهم دولي مفتوح لكنه يشترط وقف تغول إيران، إلا أن ذلك لم يُقبل منه.
ونحن هنا نتحدث عن الحزب الجمهوري، باعتبار ما يردده البعض أن التموضع الأميركي الأخير، يخص رؤية أوباما، وهو ما رددنا عليه مرارا. فواشنطن تُغيّر بالفعل فلسفة وجودها في الخليج العربي، وتَسير حثيثا نحو شراكة مع إيران كشرطي لها بعمامة دين، تحتها بساط فارسي مليء بالمصالح، واتقاء المحاذير المشتركة.
وهي معادلة ثابتة حتى اليوم، لكن الموقف السعودي الجديد وتحالف أنقره معه أدركا فيما يبدو أن سقوط حلب في يد الإيرانيين، يعني دحرجة مشروع داعش والتقسيم نحوهما، وأنه مالم يوقف هذا الزحف، فإن زحف عناصر داعش إلى حصونهم أمر متوقع بصورة كبيرة، فما دمت فوّت فرصة إدارة اللعبة في ملعب جارك، فستدار على ملعبك.
لكن اللافت أيضا هو عدم استشعار الأتراك لضريبتهم الذاتية، والبحث عن حلول وسط، قد تنقذ مسيرة حزب العدالة، وبالتالي الاكتفاء بربع تدخل، وتحريك بيانات الناتو، ثم الانسحاب بهدوء من واقع الثورة السورية للحفاظ على الأمن القومي التركي، وهي نظرية وإن كانت مطمئنة للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي مؤقتا، لكنها ليست مقنعة على الإطلاق إستراتيجيا.
يبقى هنا تقييم الموقف السعودي، وهل صحيح أن المهمة كما يروج بعض خصوم الرياض، ستخضع فقط لمواجهة داعش ميدانيا، ومساعدة الروس والإيرانيين في اتفاقهم مع واشنطن.
الحقيقة أن الرد على مثل هذه النظرية، يكفي فيه مراقبة موقف الغرب من تطور التفكير السعودي، وموقف موسكو وطهران الشرس والمتوتر من قرار المشاركة، وقلق واشنطن ثم محاولة استقطاب الرياض نسبيا، وإقناع موسكو في مكالمة أوباما لبوتين بتأخير التعاطي مع قرار التحالف التركي السعودي.
نفهم من كل ذلك أن تحالف أنقره والرياض حتى لو تغطى بمظلة دولية تشارك فيها واشنطن، له خريطة أهداف مختلفة تماما عن توافق واشنطن مع التحالف الإيراني الروسي، وهو التوافق الذي روج له جون كيري وزير الخارجية الأميركي، قبل أن يُوَاجه بالرفض السعودي الأخير.
وكل ذلك سوف يخضع لمباشرة العمل النوعي، فالاعتقاد أن ما يسمى خليجيا – بالتهويش-أي إبداء قوة للتأثير على خصم متقدم، لا ينفع مطلقا في حالة سوريا، والزحف الإيراني الروسي، كما أن الدخول في حرب مفتوحة أيضا قرار خطير.
فيما الخيار الممكن، هندسة عمليات نوعية بالتحالف مع الثوار على الأرض، الذين عليهم مسؤولية فرقتهم المستمرة، وهي هندسة يمكن جدا أن تقلب طاولة المواجهة، وهي خطة لن تسترضي موسكو قطعا، وستواجهها سياسيا، وربما ميدانا بالوكالة، ولكنها أيضا لن تخضع لـ”تهويشها” على السعودية في اليمن أو الشرقية السعودية، فمعادلة الدفع الإستراتيجي تحتاج قرارا ومسؤولية، وإلا ساد كل أحد بمنصات منابر وخطب.
وهناك مراهنة اليوم في موسكو وواشنطن، على سحب أي فرصة لتغيير المعادلة بتعجيل اجتياح حلب، وبالتالي انهاء الثورة السورية، غير أن الميدان ولو تراجع الثوار بل حتى لو سقطت حلب، لن يُصفّى كما يظن الروس وطهران، فإذا لم يفهموا درس العراق، سيفهموا درس سوريا ووحلها الكبير.
المصدر : الجزيرة