في شمال سوريا تتبدل الأوضاع ما بين الهدنة والمذابح، في الوقت الذي تقصف فيه طائرات الأسد المناطق التي يسيطر عليها الثوار في الجانب الشرقي من حلب، في محاولة لإجبار المدنيين الباقين في المدينة على الفرار.
تقول فابريس بالانشي، الخبيرة في الشأن السوري بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن «تلك هي الاستراتيجية الكلاسيكية لمكافحة التمرد تتطابق مع الاستراتيجية التي استخدمها الفرنسيون في الجزائر و الأمريكيون في فيتنام». في العراق كانت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة أكثر حرصًا على تجنب وقوع الضحايا بين المدنيين، وحتى بالرغم من ذلك تدمرت 70% من مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار في حين تحولت المنازل الناجية من ذلك الدمار إلى أفخاخ للموت جراء العبوات الناسفة محلية الصنع التي كان يزرعها تنظيم داعش .
لقد استطاع القصف الجوي والطائرات التي بدون طيار أن تضعف تنظيم داعش، ربما ليس كما كانت العواصم الأمريكية والأوروبية تأمل، فداعش لم يكن يقاتل حتى آخر رجل في مدن مثل الرمادي أو تدمر، ولكنهم في المقابل كانوا ينسحبون ويلجأون إلى حرب العصابات. أعداء كل من داعش والنصرة متفرقون ومنقسمون ويسعون نحو أهداف مختلفة، أما الولايات المتحدة فهي ترغب في هزيمة داعش، ولكن في الوقت ذاته لا تريد أن يصبح الجيش السوري أو المليشيات الشيعية العراقية الأدوات التي تنزل الهزيمة بكل من داعش والنصرة.
الجيش الأمريكي قدم مساعدات عسكرية كبيرة للغاية للقوات العراقية لاستعادة مدينة الموصل؛ فقد أعلن البنتاجون مؤخرًا أن «المدفعية الأمريكية سوف تدعم هجمات القوات البرية العراقية لاستعادة المدينة، وأن الولايات المتحدة سوف تقدم 415 مليون دولار للبيشمرجة الكردية». وربما هناك بعض الخسائر الطفيفة عسكريًا، ولكنها كبيرة سياسيًا، مثل تلك التي وقعت بين صفوف قوات الجيش الأمريكي بمقتل جندي من البحرية الأمريكية على يد قوات داعش في هجوم مفاجئ شمال الموصل الأسبوع الماضي.
الآن يتعرض داعش لهزيمة كبيرة وهو في طور الانسحاب، ولكن من غير المحتمل أن يتم هزيمة التنظيم هذا العام، فهو يفقد أراضي ولكن من المهم أن نضع في أذهاننا أن الكثير منها عبارة عن صحراء أو شبه صحراء، لكن الأهم هو خسارته الكبيرة بإغلاق الحدود التركية أمامه بسبب تقدم القوات الكردية السورية تحت مظلة جوية أمريكية، فالممر الضيق بين حلب وبين نهر الفرات الذي يربط ما بين مقر التنظيم في الرقة حتى الموصل في العراق أصبح تحت تهديد قوات البشمرجة وحلفائهم من العرب من الشرق، والجيش السوري من الغرب. وإذا ما سدت هذه الثغرة فإن داعش سوف يواجه صعوبة كبيرة في استقبال متطوعين أجانب أو في إرسال الإرهابيين لشن هجمات في الخارج.
وقد صرح الديكتاتور بشار الأسد مؤخرا أنه سوف يقاتل من أجل استعادة كل سوريا وسيذهب في ذلك الطريق الطويل حتى آخره، ولكن ذلك سيكون انتصارًا لحكومة أقلية لا تستطيع الحفاظ على سلطتها سوى بالإرهاب والقوة العسكرية، مما سيكرر هيمنة نظام صدام حسين على العراق بعدما حطم الانتفاضات الكردية ضده و قمع 80% من الشعب العراقي عام 1991.
ربما لن يصل الأمر إلى ذلك، وأيضًا ليست كل الأخبار سيئة؛ فالبارقة الأكثر تفاؤلاً في سوريا هي أن روسيا والولايات المتحدة يتصرفان في بعض الأحيان بصورة متناغمة، ولأول مرة منذ خمس سنوات استطاعا أن يجبرا حلفاءهما في سوريا على قبول وقف لإطلاق النار بالرغم من هشاشته وقصر أمده. ولكن الدروس المستفادة من تلك السنوات الخمس في سوريا، والسنوات الثلاث عشرة في العراق، هي أنه من الصعب جدًا على أي طرف واحد – سواء كان جيشا أم حكومة أم ميليشيا أم حزبا أم طائفة – أن يقاتل بمفرده بنجاح ولمدة طويلة بدون دعم من أي من قوة – أو قوى – أجنبية. ربما لا يرغبون الآن في عقد تسويات أو تقديم تنازلات ولكنهم سيجبرون على فعل ذلك إذا ما كان البديل هو فقدان داعميهم الأساسيين من الخارج. وبالوضع في الاعتبار أن الأسد ومناوئيه يكرهان بعضهما بعضا، ويريدان أن يقتلا بعضهما بعضا وليس لديهما نية أن يتبادلا السلطة في المستقبل، فإن مثل تلك التسوية من المتوقع أن تكون صعبة وقصيرة الأمد.
الاختبار الحقيقي في الأشهر القادمة سوف يكون حدود رغبة وقدرات الجانبين الأمريكي والروسي في فرض وقف لإطلاق النار أو على الأقل عدم تصعيد للقتال. فحالة الحرب المستديمة تناسب كلا من الحكومة في دمشق وأعدائها الأكثر تطرفًا، لأن الكثير من السوريين الذين لا يحبون الأسد يشعرون أن البديل الوحيد لنظامه، هو إما «المنفى أو الكفن» كما اعتاد الجزائريون إبان الاحتلال الفرنسي أن يقولوا. والسوريون معارضو الأسد أيضًا أمامهم أحد خيارين إما أبيض وإما أسود: ما بين حكومة قاتلة أو إرهابيون قتلة. فقط نزع السلاح من المشهد السياسي السوري وحده ربما يكون قادرًا على فتح الطريق أمام بدائل وآمال بعيدة لسلام دائم.
(الإندبندنت )
مركز الشرق العربي