أسد عبد الكريم القصار – المركز الصحفي السوري
غداً يسقط وسنعود.. يأتي الغد.. فنعود الى قولنا غداً يسقط وسنعود.
الغريب ان ذاك الغد لم يأتي بعد وإننا نحن الذين نسقط واحداً تلو الاخر… كما سقط حلم التحرير في أوحال الطغيان والرجعية.

أنظر الى عينا صغيري الفرحتين، فيعتصر قلبي الماً أي مستقبل ينتظرك يا ولدي، دون وطن أو حتى جواز سفر؟! قد يعزيني اني في يوم من الايام كنت فاعلاً وشاهداً على ثورة حقيقية نبيلة، ولا اظن ان السنوات القادمة ستبقي له منها”فنفوتةً ثورية” كي تصبح عزاءً له في غربته القسرية هذه.
تتناقل وكالات الانباء بشكل شبه يومي انباءً عن غرق لمهاجرين سوريين في البحر، ولكم اعتصرت الماً لتلك الميتة الشنيعة، هم لم يغرقوا في مياه البحر بقدر غرقهم في احلامهم، احلامٌ لا تجاوز منزلاً وعيشاً كريماً والقليل القليل من الحرية.
ولم يخطر ببالي يوماً ان حالة الاختناق القهري التي اعيشها قد تدفعني الى خوض تلك التجربة التي لا تحمل أي شكل من اشكال المنطق؛ لاركب الامواج ممتطياً احدى قوارب الموت.
ساحة اكسراي في إسطنبول، كانت نقطة البداية دخلتها فاحسست أن العيون كلها تراقبني وإني لست سوى حفنة متحركة من الدولارات، يستكلب الجميع لنهشها، سماسرة التهريب يقبلون علي الواحد تلو الاخر، كما يقبل القوادون لعرض موماستهم على زبائن المتعة واللهو، والكل يقسم على مهنيته العالية، وسعادة زبائنه السابقين ووصولهم بالامس”بالسلامة الى شواطئ اوربا”.
اتممت اتفاقي مع أحدهم، لم يكن متميزاً بشيئ عن باقي السماسرة إلا اسمه الحركي” جيفارا” قد وافق هواي اليساري فوقع عليه الاختيار.
المحطة التالية أزمير، خمسة ايام من الانتظار والكذب المتواصل من قبل السمسار، صاحب ذلك تعارفي على اصدقاء من دمشق والحسكة وحلب، وكان القرار الجماعي بالتوجه لعقد اتفاق مع سمسار ذائع السيط في المنطقة يدعى” هشام ابو الوليد”.
قابلنا أبو الوليد وبدأ بوصف تفاصيل الرحلة، بلم ( قارب مطاطي) طوله تسعة أمتار، ثلاثين راكباً، السائق بحار مخضرم من جبلة، النقل من أزمير الى نقطة الانطلاق بباص، مدة الرحلة نصف ساعة.
تم الاتفاق ودقت ساعة الصفر وتوجهنا الى نقطة التجمع، وإذ بعربة” فان مغلقة مخصصة لنقل الخضار”، في هذه العربة الخالية من أي فتحة تهوية تم زج لأكثر من ستة وخمسون إنسان بينهم ستة نساء وثمانية أطفال لأكثر من اربع ساعات.
لا أدري إن بقي شيئ من إنسانيتي واحترامي لذاتي بعد نزولي من هذه العربة.
على الشاطئ وفي خرابة قديمة اختبأت والمجموعة حتى حل الليل والمهرب واقف كالسجان يشتم ذا وينهر ذا ويضرب ذاك، بيده تارة وبكعب مسدسه تارة اخرى، حتى حل الظلام وزج بنا زجا كقطيع من الأغنام نحو جرف صخري على البحر وركب 56 شخص في قارب مطاطي طولة ستة امتا، والبحار” حلبي من سيف الدولة” لم يرى البحر في حياته، صعد قبلنا وصاحبه المهرب في دورتين لا اكثر.
وبدأت رحلة الموت، ثلاثة ساعات من الابحار ولا يونان ولا أفغانستان، في تلك اللحظات لم يغب عن بالي بشار الأسد ولا أدري سبب فضولي حول ما يفعله في هذه اللحظة بالذات، وفجأة أرتفع الموج حتى بلغ 3 أمتار، تعطل المحرك، ودب الرعب في قلوب الجميع، اتصل احد الركاب بخفر السواحل التركي واخر باليوناني، اتقلب القارب، ونحن في المياه الاقليمية، ست ساعات والفريقين يكيلان السباب والشتائم لبعضهما ويتقاذفون مسؤولية انقاذنا والموج يبلعنا وبلفظنا.
غرقت عائلة بأكملها امام عيني، مكونة من اب وأم وطفلين، رمتنا الامواج الى الجانب التركي فقام الخفر بإنقاذنا.
تتالت بعدها المحاولات حتى بلغت ست محاولات جميها باءت بالفشل وكأن خفر قيادة السواحل التركي قد اقسمت بان فطورها الصباحي بصحبتي.
أزمير، بودروم، ديدن، مليس، مرمريس، فتية، مدن وبلدات الساحل التركي التي مررت بها في محاولتي للسفر الى اليونان.
يخت سياحي، سمعت هذه الجملة وكأني سمعت نداءً من الجنة، نداءٌ قد يكون حلاً، عوضاً عن القوارب المطاطية اللعينة، اربع حجرات واسعة مكيفة، يخت طوله 24 متراً، هكذا قال السمسار” صدام ابو عدي”، بعيد عن الموضوع أتلاحظون انتقاء تلك الاسماء الفخمة صدام، أبو الوليد، جيفارا وكأنها غلافٌ تسويقي لمهنةٌ تكافئ القوادة أو اللصوصية في خسة ووضاعة، المبلغ الضعف … لا بأس … الانطلاق غداً.
نقلتنا سيارات الى سفح جبل خارج مرمريس، خمس ساعات من التسلق والنزول حتى بلغنا نقطة التجمع لنتفاجئ بعدد 130 شخصاً لا 35.
صعدنا جميعاً في يخت صيد شراعي لايوجد فيه سوى غرفة واحدة لا تزيد رحابةً عن مقصورة الفان سيئ الذكر، احساس انعدام الانسانية عاد مجدداً وعاد معه حول ما يفعله بشار في هذه اللحظة.
كش كش كش صاح سائق اليخت لنقفز الى الماء ونسبح الى اليابسة وصل الجميع الى جزيرة مهجورة، اتصلنا بخفر السواحل اليوناني وجلسنا ننتظر 38 ساعة بلا طعام او ماء، حتى حشائش الجزيرة شوكية يابسة، ابكاني منظر ام تحاول تجمع ريقها لتبصق في فم طفلها الذي لم يبلغ السنتين.
وبعدها تزايدة حالات الاغماء بيننا، قام البعض وكنت بينهم وتوضأنا من البحر وصلينا صلاة مودع، في عصر اليوم التالي اقبل الخفر اليوناني وقام باصطحابنا الى جزيرة مجاورة تدعى” خالكي” وقاموا بإيداعنا في كنيسة صغيرة، قام اهالي القرية منذ وصولنا حتى حصولنا على الخارطية برعايتنا بكل محبة.
اليوم، انا في اثينا في فندق حقير في ساحة اومونيا، اخطط مع رفاق جدد ومعذبين جدد للخطوة القادمة في الطريق الى بلوغ ما يفترض به أن يكون حياة كريمة لي ولعائلتي واه كم أعتصر الماً وكم سأعتصر ألماً حتى أبلغ غايتي.