أدرج الأوروبيون في اتفاقية ماستريخت لعام 1992، التي بموجبها أصبحت الجماعة الأوروبية تسمى الاتحاد الأوروبي بداية من نوفمبر/ تشرين الثاني 1993، قاعدة “مقدسة” هي قاعدة 3% من العجز في الميزانية. وهي فكرة عرضها الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا ميتران، على شركائه، ولاقت ترحيباً، لاسيما من ألمانيا التي كانت تريد صرامةً أوروبية في تسيير الميزانيات، وتبنت منطقة اليورو القاعدة نفسها.
وقد أصبحت هذه القاعدة الصارمة معروفةً لدى المواطنين الأوروبيين، لأن الحكومات تتعذر بها لتبرير سياساتها، خصوصاً منذ الأزمة المالية الاقتصادية التي بدأت في 2008-2009 وهزّت عرش الاتحاد، وخصوصاً منطقة اليورو (مع انهيار الاقتصاد اليوناني). واتضح أن الاتحاد يتجاذبه توجهان متناقضان. توجه يقول بالصرامة في الميزانية وبالإنفاق العام، احتراماً لقاعدة 3% من إجمالي الناتج المحلي، وتفادياً للمديونية العامة، أي سياسة تقشف صارمة للخروج من المنطقة الحمراء، وتتزعم ألمانيا هذا التوجه. وتوجه يقول بسياسة تحفيز النمو، أي عدم الالتزام بهذه القاعدة، ولو مؤقتا، والعمل بالعجز في الميزانية سبيلاً للخروج من الأزمة، وتطبيق هذه القاعدة لما يتحسن الوضع الاقتصادي، لأن سياسية التقشّف الصارمة تزيد من حدة الأزمة. وتقول عدة دول بهذا التوجه، ومنها فرنسا، لكنها رضخت، في نهاية المطاف، إلى التوجه الأول بضغطٍ من ألمانيا.
هكذا تحول الاتحاد إلى “دركي مالي”، يعاقب كل بلد يتجاوز نسبة 3% من العجز في الميزانية، فكان أن زاد من تشويه صورته لدى الرأي العام الأوروبي، خصوصاً أن الحكومات تحمله كل شيء، فبسبب أوامرها وتعليماتها التقشفية، ودورها في توزيع شهادات حسن/ سوء السلوك والأداء الاقتصاديين، ومعاقبتها دول الاتحاد مالياً، أصبحت المفوضية الأوروبية، بالنسبة للأوروبيين، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بالنسبة لشعوب دول الجنوب التي فُرضت عليها برامج إعادة الهيكلة والجدولة، وما لذلك من تكلفة اجتماعية.
لكن سياسة التقشف لم تأت أكلها، وإنْ كانت اقتصاديات بعض الدول (إسبانيا، البرتغال…) بدأت تتحسن بعض الشيء، لكنها لم تخرج بعد من الأزمة، وتحولت أوروبا إلى مسرح
للاحتجاجات الاجتماعية على غلاء المعيشة، فيما تصلب عود التيارات الشعبوية والمتطرّفة، لاسيما اليمينية. إلا أن هذا الاحتقان الاجتماعي والضائقة المالية لم يقنعا الاتحاد بضرورة العدول عن “قداسة” قاعدة 3%، وبتبني سياسة تحفيز النمو (المخاطرة بعجز في الميزانيات من أجل إنعاش الاقتصاد للخروج من الأزمة) بدل سياسة التقشف والصرامة في الإنفاق العام.
توجب انتظار صدمة الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى تظهر أولى ملامح المرونة في تعامل الاتحاد مع الأزمة الاقتصادية والسياسية، حيث أبدى مرونةً في تعامله مع مسألة الصرامة في الميزانية، لمّا قرّر، الصيف الماضي، عدم معاقبة (والعقوبات غرامة مالية قد تصل إلى 0,2 من إجمالي الناتج المحلي) إسبانيا والبرتغال، بسبب العجز في الميزانية بين 2015 و2016. واعتبر هذا القرار حينها بمثابة أول انعكاس لاستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وهو إقرار بضرورة المراجعة الظرفية لبعض القواعد الأوروبية، لإنقاذ الاتحاد من أزماتٍ قد تهدّد بنيانه بأكمله، خصوصاً مع الهوة التي تزداد اتساعاً بين الاتحاد والمواطنين الأوروبيين.
إذن، تحت الضغط الشعبي المتزايد، والصعود القوي لليمين المتطرّف في أوروبا، وصدمة خروج بريطانيا، بدأ الاتحاد الأوروبي في رفع “القداسة”، ولو مؤقتاً، عن المعايير الاقتصادية. ولم تكن المرونة التي تعامل بها مع إسبانيا والبرتغال في الصيف الماضي حدثاً عارضاً، بل توحي بتغير أساسي في سياسة الاتحاد، تداركاً للوضع، قبل أن تفلت الأمور تماماً. وهذا ما تأكد مع قراره تبني سياسة تحفيز النمو بعد سنواتٍ من تطبيق سياسة التقشف. إذ أعلنت المفوضية الأوروبية، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أنها لن تفرض عقوباتٍ على الدول (إسبانياـ البرتغال، إيطاليا، قبرص…) التي يتجاوز عجز ميزانيتها 3% من إجمالي الناتج المحلي. بهذا، يتبنى الاتحاد الأوروبي رسمياً سياسة تحفيز النمو التي طالما طالب بها كثيرون في أوروبا، من أحزاب حاكمة وفي المعارضة، لكن الاتحاد بقي متمسكاً بخياره.
يؤكد هذا القرار التوجه الجديد في سياسته. ولا جدال في أن انتخاب دونالد ترامب، الشعبوي،
رئيساً جديداً لأميركا ساهم أيضاً في دفع المفوضية نحو القرار، وعيونها طبعاً على المشهد الأوروبي والاستحقاقات الانتخابية القادمة في دول أعضاء عديدة (النمسا وإيطاليا وهولندا وفرنسا وألمانيا…). يعرف معظم هذه الدول صعوداً قويا للتيار المتطرف المعادي لأوروبا وللمنظومة الليبرالية وللإسلام والمسلمين والمهاجرين واللاجئين… ومن ثم، تأتي مراجعة القواعد المالية-الاقتصادية الأوروبية الصارمة محاولةً لامتصاص الغضب الشعبي والتقليل من الشعبوية المتنامية في دول الاتحاد. لكن هذا التدارك قد يأتي متأخراً، لأن الاستحقاقات الانتخابات المذكورة ستكون في غضون ستة إلى سبعة أشهر.
صحيح أنه لا جدال في مسؤولية الأحزاب الحاكمة في البلدان الأوروبية، لأنها غالباً ما حملت الاتحاد الأوروبي تبعات سياساتها وفشلها. لكن، للاتحاد مسؤولية أيضاً في ما آلت إليه الأمور في دوله الأعضاء. ففرضه قواعد الانضباط المالي الصارمة لم يخرج أوروبا من الأزمة، بل ساهمت هذه في تنامي الشعبوية واليمين المتطرّف في دوله، حيث يتعمق الشرخ بين الطبقات الشعبية، وحتى المتوسطة والنخب الحاكمة. وعليه، فإن مراجعة الانضباط المالي الأوروبي جاءت متأخرة، ومن غير المرجح أن تؤثر في المشهد السياسي المحتقن في الاتجاه المرغوب فيه. ولا نقول شططاً إن اعتبرنا هذه المرونة دلالةً على حالة الفزع في البيت الأوروبي من نتائج الانتخابات القادمة في دول الاتحاد…
عبد النور بن عنتر_العربي الجديد