القدس العربي – رائد صالحة
واشنطن-“القدس العربي”: وصل العالم إلى طريق مسدود تقريباً بسبب جائحة كوفيد-19 ولكن مشاكل السياسة الخارجية الأمريكية لم تختف، بل على العكس من ذلك، ازدادت الأمور سوءاً، وما يحدث في سوريا هو مثال على ذلك، خاصة فيما يتعلق بالدور الروسي.
ولاحظ محللون أمريكيون أن قرار الكرملين عام 2015 بدخول الحرب الدموية في سوريا إلى جانب رئيس النظام السوري بشار الأسد يأتي امتدادا لما يسمى “مبدأ بوتين” الذي وضعه الرئيس الروسي في عام 2008 وينصب تركيزه الرئيسي على إضعاف النفوذ الأمريكي على الصعيد العالمي مع العمل على زيادة مكانة روسيا الإقليمية وقدرتها على عرض القوة.
وكان التوغل الروسي اللاحق مثالاً رئيسياً على زواج “الإمبريالية القيصرية والتوسعية السوفييتية” وعلى الرغم من أن سوريا لا تقع على حدود الإمبراطورية السوفييتية، إلا أنها كانت بمثابة قطعة حاسمة للاستراتيجية السوفييتية خلال عقود الحرب الباردة-واليوم، من روسيا.
وأشار الباحث لامونت كولوتشي في شؤون الأمن القومي بمجلس السياسة الخارجية الأمريكية في واشنطن إلى أن أنشطة روسيا في سوريا على مدى نصف العقد الماضي، قد حققت الكثير من المكاسب للكرملين، وقال إن موسكو حولت البلاد إلى مختبر لفحص الأسلحة والتكنولوجيا والاستراتيجية والتكتيكات الروسية تحت ستار الكفاح المستمر ضد تنظيم “الدولة” والجماعات الجهادية، وفي الواقع، وصفت القيادة الروسية العليا سوريا بأنها نموذج للتدريب وعملياتها هناك “استراتيجية للعمل المحدود”.
ويتواجد حالياً حوالي 5 آلاف ضابط وجندي روسي، معظمهم من المستشارين العسكريين، والقوات الخاصة، وأفراد الدعم الجوي في سوريا، حيث تستمر موسكو في تزويد الأسد بالأسلحة وتعطي رئيس النظام الدعم الدبلوماسي الذي تشتد عليه الحاجة على الساحة الدولية، وقد تم توجيه الضربات الجوية الروسية، وهي عنصر حاسم في استمرار بقاء نظام الأسد، في المقام الأول ضد قوات المعارضة بدلاً من تنظيم “الدولة”.
وعلاوة على ذلك، أشار الباحثون إلى أن هذه الغارات الجوية استهدفت المدنيين السوريين بشكل عشوائي، وحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن إجمالي عدد القتلى المدنيين في سوريا منذ اذار/مارس 2011 كان 226247، منهم 6514 على الأقل قتلوا مباشرة من الروس، وتشير تقديرات أخرى إلى أن الرقم أقرب إلى 8400. كما اتهمت الأمم المتحدة روسيا بالتورط في جرائم حرب من خلال الضربات الجوية العشوائية ضد المدنيين وأرعبت السكان وشردت أعداداً كبيرة من السوريين.
واتفق محللون أمريكيون على أن روسيا قد تعلمت من أخطائها العسكرية السابقة، وعلى النقيض من التجربة السوفييتية في أفغانستان في الثمانينات، كانت روسيا دقيقة للغاية في التزامها بساحة القتال السورية، حيث أعطت الحكومة الروسية الأولوية لاستخدام تكتيكات المواجهة، مثل الضربات الجوية واستخدام المقاولين العسكريين، وقد تحدثت النتائج عن نفسها، حيث لم يتجاوز عدد الوفيات الروسية في سوريا 116 فقط حتى الربيع الماضي.
وأعطت روسيا أهمية لتعزيز موطئ قدمها العسكري في البلاد، وعززت وجودها البحري في مدينة طرطوس الساحلية، وأقامت قاعدة جوية في حميميم، وأنشأت معسكرات عسكرية في أماكن أخرى من البلاد، وتمكنت موسكو من تأمين ترتيبات طويلة الأجل ومفتوحة من نظام الأسد، الذي ما يزال ضعيفاً ومتلهفاً لرؤية روسيا في البلاد لفترة طويلة وتوفير الحماية الأمنية.
ومن الناحية الاقتصادية، استغلت روسيا بمهارة الوضع السوري غير المستقر، لتهيمن على قطاع الطاقة السوري، حيث قامت مجموعات روسية، وضعتها الولايات المتحدة في قائمة العقوبات، بتطوير حقول الغاز التي تغذي عائداتها آلة القتل، وحصلت على عقود لاستغلال الهيدروكربونات في شرق سوريا، واستكمال خطط الأنابيب التي تربط سوريا والأردن، والعديد من مصانع معالجة الغاز.
وبالنسبة للعديد من المحللين الأمريكيين، تمثل هذه الأنشطة ووجود روسيا المستمر في سوريا تهديداً للمصالح الأمريكية، فهي تساعد على تقويض السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط، كما سمحت للكرملين بالعودة كلاعب جدي في السياسة الإقليمية والبدء في تشكيل شرق أوسط جديد.
الولايات المتحدة خسرت المعركة بشكل واضح في الساحة السورية، ومن غير المحتمل أن تتمكن من العودة لفترة طويلة، وفشلها وصل إلى نقطة لا تستطيع فيها فرض أي شروط أو مطالب لتحقيق التسوية السياسية في سوريا، ولكنها تحاول تجاوز دور المراقب لتحقيق بعض الأمنيات والدفاع عن المصالح الإسرائيلية في المنطقة، وقد وصلت الأمور إلى حد الشفقة، على حد تعبير بعض الخبراء، عندما قال المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا جيميس جيفري إن وظيفة الولايات المتحدة هي جعل الحرب هناك “طريقاً مسدوداً” بالنسبة لروسيا، مدعياً أن أمريكا لم تصل لطريق مسدود في سوريا.
وبغض النظر عن المشاعر التي قد يتم التعبير عنها عند سماع هذه التصريحات، فإن الإدارة الأمريكية تعتقد بالفعل أن وظيفتها هي تحويل الحرب الروسية في روسيا إلى “مستنقع” ومواصلة الضغط على نظام الأسد، الذي تعتبره يشكل المزيد من التهديدات للمنطقة والفكرة الأمريكية حول كيفية تنظيم العالم.
الولايات المتحدة لم تعلق بدورها على المعلومات الأخيرة المتداولة بشأن خلافات بين روسيا ونظام الأسد ومشكلة موسكو مع طهران في دمشق، ولكن المزيد من الباحثين في واشنطن لديهم اعتقاد بأن روسيا تميل الآن للتخلص من عميلها السيء السمعة بعد خمس سنوات من القتال للحفاظ على نظامه، وقالوا إن وحشية الأسد وفساده المستمر وعدم قدرته على تأسيس دولة عاملة حتى بالمظهر أصبح عبئاً على موسكو لا تستطيع أن تتحمله.
وأشاروا كذلك إلى المشكلة الإيرانية حيث يقيم الأسد وأفراد عائلته علاقات وثيقة مع طهران لا يمكن اختراقها، ولكنها تقوض مهمة موسكو الأساسية في سوريا، وهي تأهيل نظام الأسد كرمز للاستقرار قادر على جذب مئات المليارات من الدولارات من الاستثمار الأجنبي لإعادة الإعمار.
وقال جيفري إن الأسد لم يفعل شيئاً لمساعدة الروس، حتى بمساعدتهم على الترويج لنظامه، فكل من حوله عبارة عن بلطجية لا يحترمهم أي أحد في العالم العربي أو أوروبا، وأشار إلى أن واشنطن سمعت مراراً من موسكو بأنها تفهم مدى سوء الأسد، وحسب جيفري، فإن رفض الأسد تقديم التنازلات من أجل الحصول على اعتراف دبلوماسي سيعرض للخطر “مئات المليارات” من المساعدات لإعادة إعمار سوريا.
ومع ذلك، من غير المرجح أن تستغل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الخلاف المتنامي، وقال جيفري إن إخراج روسيا من سوريا لم يكن هدفاً لواشنطن، مشيراً إلى أن روسيا موجودة هناك منذ 30 عاماً، ولها علاقة طويلة الأمد مع سوريا، وهي لا تعتقد أنها صحية للمنطقة ولكن هذه ليست سياسة الولايات المتحدة.
وتأتي هذه التصريحات بعد أسبوع واحد فقط من إطلاق وسائل الإعلام الروسية العنان لعدد كبير من التقارير والافتتاحيات التي تستهدف الأسد، وتصوير الرئيس المحاصر على أنه فاسد بشكل بائس وغير صالح للحكم، وتشير على أن الوقت قد حان لاستبداله بزعيم جديد.
ولاحظ المحللون الأمريكيون، أيضاً، أن الهجمات الإسرائيلية ازدادت بوتيرة واسعة النطاق منذ نيسان/أبريل ضد سوريا بعد موجة المقالات الروسية التي هاجمت الأسد.
في نهاية المطاف، يرى العديد من المحللين أن رغبة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وبعض الدول العربية في الإطاحة برئيس النظام السوري قد تتحقق في فترة ليست بعيدة، ولكن ليس كما كان متوقعاً، بل على يد روسيا نفسها التي سارعت لحماية نظامه من الانهيار في الفترة السابقة.