بات من المؤكد أن الأحداث التي سبقت وتزامنت مع محادثات جنيف 3، منحت النظام السوري حظوظاً أوفر، فجعلته أكثر توازناً، وتحديداً مع بدء الغارات الجوية الروسية في 30 أيلول (سبتمبر) الفائت، قابله إرباك في صفوف الهيئة العليا للمفاوضات بسبب مجموعة عوامل رئيسة أهمها:
أولاً، عدم قدرة المعارضة المعتدلة ميدانياً على مضاهاة “داعش” و “النصرة”، في مقابل الوحدات الكردية وقوات النظام.
ثانياً، استمرار تحالف العديد من فصائل “الحر” مع “جبهة النصرة” المدرجة أممياً على لائحة الإرهاب، وهو أمر يعرف كيف يستغله النظام سياسياً في المحافل الدولية.
ثالثاً، الخطأ في القراءة الاستراتيجية لكيفية إسقاط النظام، والرهان على أن الروس سيبيعون نظام الأسد، وأن الولايات المتحدة بلحظة ما ستبادر لإسقاطه، ليتضح أن الإدارة الأميركية هي من يبيع ويشتري، وأن الروس كانوا أصدق مع حليفهم، وقد تدخلوا منعاً لانهياره.
رابعاً، تمدد “داعش” خارج العراق وسورية، وهنا تأتي تفجيرات باريس المروعة عشية اجتماع فيينا في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، لتلقي بثقلها على القرار 2254 ومعه جنيف 3، حيث تقدم مفهوم الأمن والاستقرار على الديموقراطية والانتقال السياسي كما نص عليه جنيف 1، وهو ما عكسته كلمة لافروف: “إن هجمات باريس لا بد أن تنعكس على أجواء فيينا”! في رسالة إلى فرنسا لتراجع قراءة موقفها. وهذا ما جاء واضحاً حينها، على لسان لوران فابيوس بقوله: “إن أحد أهداف اجتماع اليوم في فيينا هو، تحديداً، أن نرى في شكل ملموس كيف يمكننا تعزيز التنسيق الدولي في مجال مكافحة داعش”.
في هذه الأجواء، حضرت مقررات فيينا في القرار الدولي 2254، والتي كانت بمثابة إنجاز إضافي بالنسبة للنظام وحلفائه، قبل الذهاب لمباحثات جنيف 3 وهذا ما عدته المعارضة انقلاباً على جنيف 1، وتخلياً من الراعي الأميركي، بدليل تهديد الهيئة العليا للمفاوضات بالمقاطعة، وحديث رياض حجاب عن تهديد تلقته الهيئة، في اجتماعها بالرياض مع الوزير كيري، من أجل الذهاب إلى جنيف والقبول بحكومة وحدة وطنية موسعة، وإلا فالإدارة الأميركية ستوقف دعمها للمعارضة!
أمام واقع الحال هذا، بدت المعارضة وكأنها تسير في حقل ألغام، فالمفاوضات مطلب أميركي- روسي، أممي، والمقاطعة ستكون هدية مجانية تقدمها للنظام، كما أن المضي بها ضمن هذا المسار، يعني تسليمها بشرعية الأسد ونظامه. لذلك تحركت الرياض مع حليفها التركي وأصدقائها الأوروبيين، لمنع انزلاق المسار التفاوضي، بما يخدم الأسد وحلفاءه، وهنا أعادت فرنسا وبريطانيا تأكيد رفض أي دور للأسد في المرحلة الانتقالية. وصعّدت المعارضة مواقفها، مشترطةً فك الحصار عن المدن والبلدات التي يحاصرها النظام، وايصال المواد الغذائية الإغاثية والطبية، قبل الدخول في أي مفاوضات. وفي هذا السياق، جاءت صور مجاعة مضايا لتحرك الرأي العام العالمي، فسجلت المعارضة نقطة على النظام، فرد الأخير بحصار كفريا والفوعة المواليتين للنظام وزاده بحصار “داعش” لمدينة دير الزور، وقيام الطيران الروسي بإلقاء المساعدات الغذائية جواً، وذلك للتخفيف من حدة الحملة الإعلامية عليه.
مع هذه الأجواء التي بدت لمصلحة المعارضة، ضرب “داعش” بتفجيرات انتحارية مزدوجة مناطق موالية للنظام في حمص والسيدة زينب بدمشق، مخلفة أعداداً كبيرة من الضحايا والجرحى، ليعود الإرهاب لتصدر المشهد السياسي، ولتدخل المفاوضات حالة ركود، اصطدمت بإصرار وفدي المعارضة والنظام على عدم تقديم أي تنازل.
وهنا أعلن بوتين في شكل مفاجئ، سحب الجزء الأكبر من قواته، بعد ضمان هدنة وقف إطلاق النار، على هشاشتها، بالتنسيق مع الجانب الأميركي، وذلك بحجة المساعدة في دفع العملية التفاوضية، ما رأت فيه المعارضة والرياض خطوة ايجابية.
أمام هذا الستاتيكو في مفاوضات الجولة الثانية، جاء حديث كيري أمام الكونغرس قائلاً: ربما يفوت الأوان لإبقاء سورية موحدة إذا انتظرنا فترة أطول. وليعلن في شكل مفاجئ الحاجة للخطة ب التي ستحدد خلال شهر! تبعه كلام ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي عن الفيديرالية، وعليه تحرك الأكراد في الشمال السوري ليعلنوا فيديراليتهم.
صحيح أن روسيا نفت علمها بوجود خطة ب ورفضتها، وأن البيت الأبيض رفض الاعتراف بالخطوة الكردية، إلا أن ذلك كان كفيلاً بذهاب رئيس الوزراء التركي إلى طهران، خوفاً من قيام دولة كردية، لا يستطيع منعها، في ظل علاقة متوترة مع واشنطن وعداوة مع الكرملين، فتقاربت تركيا خطوة مع ايران، مقابل تريثها في الموضوع السوري!
يبقى موقف الاتحاد الأوروبي ومن ورائه الفرنسي والبريطاني، الداعم للمعارضة، والذي لم يكن بمنأى عن النقد واللوم الأميركي، وهذا ما اعترف به أوباما لمجلة “اتلانتك” معتبراً أن دعمه للتدخل العسكري الذي شنه حلف شمال الأطلسي في ليبيا كان خطأ، نتج في جزء منه من اعتقاده المغلوط بأن بريطانيا وفرنسا ستتحملان المزيد من عبء العملية. كما وصف أردوغان بالمستبد، واتهمه بعدم رغبته في استقرار سورية!
بعدها بأيام، وبتاريخ 22 آذار (مارس) أصاب إرهاب “داعش” قلب عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسيل. وأمام هذا المنعطف الخطير بالأحداث والمواقف الأميركية، سارعت الوزيرة الأوروبية موغريني الى مقابلة بشار الجعفري، معتبرةً أن إنهاء النزاع السوري سيتيح التركيز على التصدي لـ “داعش”، وقال الجعفري: ناقشنا في شكل مسهب أهمية التعاون مع الحكومة السورية في مكافحة الإرهاب!
وأمام مشهد العجز الأوروبي، كان الجيش السوري يستعيد مدينة تدمر الأثرية من “داعش”، ويلقى ترحيب الأمين العام للأمم المتحدة، فيما الجعفري يمد اليد للأميركيين لمكافحة الارهاب! بهذا المناخ يخرج الأسد واثقاً ومنتقداً السعودية وتركيا وفرنسا وبريطانيا، عارضاً على المعارضة الدخول في حكومة وحدة وطنية! وهنا لسنا في حاجة لكثير من التمحيص، لندرك مدى التقاطع مع المواقف الأميركية، إذ يبدو أن نظام دمشق قد نجح أخيراً، في رقصة الفالس مع الشيطان الإمبريالي!
الحياة