نعم … اختلفت القراءة خلال 13 يوما فقط، وهي تلك المسافة الزمنية الفاصلة بين سقوط طائرة الركاب الروسية نهاية تشرين الأول ـ أكتوبر وأحداث باريس الدامية في 13 تشرين الثاني ـ نوفمبر 2015، الجريحان اثنتان من القوى الخمس الكبرى هما روسيا وفرنسا، المجرم واحد إلا أن التفاصيل تتجاوزه إلى كامل المشهد على ما يبدو.
في 20 تشرين الأول ـ أكتوبر استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشار الأسد في أول تحرك خارجي للأخير خلال خمس سنوات، وخلال تلك الزيارة التي سبقت سقوط الطائرة الروسية بتفجير قنبلة دبره تنظيم الدولة أبلغ بوتين ضيفه الثقيل بأن عليه ترتيب مسألة الانخراط في مفاوضات مع المعارضة لتشكيل حكومة انتقالية، هذه المعلومات كشف عنها مسؤولون إسرائيليون وفق تسريبات ظهرت مطلع الأسبوع الجاري، ويبدو واضحاً من التوقيت أن الإسرائيليون يعرفون أن سقف التسوية انخفض جداً، وأن ترتيبات لقاء قمة العشرين في تركيا و”فيينا2″ فيها من التفاصيل ما يسمح بكسر الحظر على مضمون الموقف الروسي وحدوده السابقة.
يقول وزير الخارجية الأميركي جون كيري في آخر تصريحاته إن مسألة الانتقال السياسي في سوريا باتت على مسافة أسابيع لا أشهر، ويقول الفرنسيون أيضاً إن تفجير الطائرة أحدث تغيراً في الموقف الروسي، فما هو مضمون هذا التغير.
حينما يتفق الجميع من موسكو إلى واشنطن وباريس وحتى الرياض وطهران على محاربة تنظيم الدولة ويبقى ثمة خلاف بين ذات الأطراف فإن عائقاً سياسياً نفسياً استراتيجياً يقف دون انسجام هذه الأطراف، ويتسبب بأحداث كبرى يمكنها أن تهزّ أمن أوروبا وروسيا وأميركا.. إنه بشار الأسد، وليس لكونه ذا أهمية عمليّة، بل لأن حواجز نفسية سياسية تبنتها موسكو منعت سقوطه، أضف إلى دعم إيراني ماديّ، مع تناقضات سببها خلل كبير تشهده المنطقة والعالم، وإعادة توضع وبناء أدوار في فترة انكفاء أميركي واندفاع روسي.
جاءت أحداث الليلة الدامية في باريس لتضرب جميع الحواجز النفسية لدى فرنسا التي تقود السياسة الأوروبية، ولم يعد ممكناً الاكتفاء بحديث الدبلوماسية وتجاذباتها وألاعيبها فيما يلبس بوتين وفرنسوا هولاند الأسود ويعلنان الحداد، بينما يخرج بشار الأسد على وسائل الإعلام ليتحدث عن صدق رؤيته في تصريحات بدت وكأنها شماتة بالضحايا، بينما ينتظر العالم بيانات تنظيم وحشي حول عملياته الإرهابية بعد أن سلمه النظام السوري بالتكافل مع داعميه في بغداد وطهران ما يعادل نصف مساحة البلدين.
تقف القوى الكبرى أمام جدار تنظيم الدولة، وبعد عشرات آلاف الطلعات الجوية يبدو أن هناك قناعة بضرورة إشراك الجميع في هذه الحرب، وليس من مصلحة أحد الاحتفاظ بنظام متعالٍ على معارضته وهو لا يملك مبررات هذا التعالي سوى أنه قابل للاستخدام على جميع الأوجه “داخلي ـ خارجي” ولمن يقدم الدّعم أيا كان.
في قراءة سريعة لبنود بيان “فيينا1” يتضح أن سكة زمنية قد وضعت للانتقال السياسي في البلاد خلال 18 شهراً مع محددات وحدة البلاد، وعلمانية الدولة، وكان واضحاً أن المسائل العالقة من بشار الأسد إلى المجموعات التي سيجري تصنيفها على أنها إرهابية هي بنود للبحث تحت الطاولة لا فوقها، وهنا بدأت تصريحات الباب الدوار بين مختلف الأطراف، إلا أن ضربتي “سيناء” وباريس كانتا كفيلتين بأن ترشح عن “فيينا2” أخبار تفيد بأن بشار الأسد انتهي عملياً، وأن إيران يجري عملياً ما يعني أنها ستكون مضطرة للقبول بتوافق دولي واسع ومنفعل، وقد يكون أقصى ما يمكن أن تطالب به لاحقاً هو تأمين مصلحة “حزب الله” اللبناني، ولعل أكبر خدمة لها في هذا الاتجاه ستكون ضمّ جبهة النصرة إلى قائمة الحركات المستهدفة.
على الأرض بدأت حركة تصفيات مبكرة كان آخرها قيام “النصرة” في المنطقة الجنوبية بقتل زعيم “لواء شهداء اليرموك” المتهم بمبايعة تنظيم الدولة ما يشير إلى نهايات محتملة ليست إسرائيل ببعيدة عنها وعن مسارها.
بالمقابل هناك عمليات مسح قيود لمقاتلي الجيش الحر على الأرض، مع إمكانية الخروج بتشكيلات جديدة، كما أنه ثمة خطوات لإدماج عمل قوى المعارضة المسلحة مع المعارضة السياسية رغم الصعوبات التي يفرضها تشتت الطرفين.
يبدو أن إنهاء حالة الأسد باتت ضرورة ضمن ضرورات إنهاء حالة تنظيم الدولة، وهي ليست بالمؤكد من أولويات النظر بالمصلحة السورية بقدر ما هي ناتجة عن ظاهرة رعب عابر للحدود، مع دخول مسألة اللاجئين منعطفاً خطيراً، ومع ما سبق يبدو أن أنظمة سياسية من نوع مختلف تلك التي ستحكم العالم ابتداء من اليوم، فهناك انتخابات رئاسية قادمة في الولايات المتحدة وفرنسا على وقع مطالبات بإصلاحات دستورية وفرض حالة طوارئ غير مسبوقة خلال عقود، وهذا بالتحديد ما يبرر اعتبار هجمات باريس مفصلاً تاريخياً لا يكترث لزعامات وازنة في الشرق الأوسط فكيف إن تعلق الأمر برأس نظام يجلس على كرسي بقدم واحدة.
المصدر: زمان الوصل