هناك في السياسة حكمة تقول (الحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه، باطل في شرع السياسة)
لعل صانع القرار السياسي في تركيا أدرك جيداً هذه الحكمة، وهو يبارز قوى عالمية متصارعة على الأرض السورية، وكانت روسيا بسياستها المعهودة “التي لا تؤمن إلا بالحل العسكري ” تختبئ تحت اتفاق ” أستانة” سيء الصيت، في ذاكرة السوريين، ثم ما تلبث روسيا أن تتنصل فوراً من تعهداتها، وخلال ١٥ جولة ماراثونية من المفاوضات “العقيمة” أدارت روسيا ظهرها لتركيا، وبدأت مرة أخرى باتباع سياسة “الأرض المحروقة” وتغولت حتى أثخنت في كل الاتجاهات غير عابئة بأي رد فعل إقليمي أو دولي، طالما هي لم تخرج عن الدور المناط بها في سوريا.
أدركت تركيا أن روسيا تحاول أن تجعل منها _ في سوريا _ ذئبا” بلا أنياب ومع تنصل موسكو من التزامتها في كل مرة، بدأت تركيا تعد العدة وتعمل على الخيارات البديلة وإن كانت صعبة، لكن لا بد من دور تركي في عمقها الحيوي داخل سوريا،
لا تبدو تركيا في موقف تحسد عليه، لكن بالضرورة ما يحدث بالقرب من حدودها الجنوبية سينعكس عليها عاجلاً أو آجلاً،
خلال الأشهر القليلة الماضية زجت تركيا بأرتال عسكرية من مختلف صنوف الأسلحة إلى العمق السوري، وكانت في ظاهرها تبديل وتعزيز نقاط المراقبة، لكنها بدت أكثر وضوحا منذ مطلع العام ٢٠٢٠، حيث لم تهدأ حركة الأرتال العسكرية التركية باتجاه الداخل السوري، كان واضحاً أن الهدف كبير بحيث يتجاوز بعداً استراتيجياً يتجاوز جغرافية محافظة إدلب وموقعها الاستراتيجي لكافة الأطراف _ المحلية و الدولية _ المتصارعة.
كان للتردد التركي خلال العامين الماضيين أثر كبير في تغير الأوضاع على الأرض، تراجع مساحة المناطق “المحررة”.
أنقرة كانت تراهن على الحلول السياسية التي أُقرت في اتفاقات (سوتشي ) و( أستانة)، وراهنت على نتائج القمم الثلاثية بين تركيا وروسيا وإيران، لكن النتائج كانت مغايرة تماماً لهذه التوقعات، حتى أصبحت تركيا في موقف لاتحسد عليه أمام الغطرسة الروسية وضربها بعرض الحائط بالتزامتها مع تركيا.
تدرك تركيا تماماً تعقيدات الملف السوري وتداخل المصالح الدولية في كثير من تفاصيل الوضع السوري، لكنها تعي أيضا أنها تقاتل لوحدها، لا هي و لا روسيا تريدان الاصطدام المباشر كما حدث في العام ٢٠١٥، عندما أسقطت مقاتلات تركية مقاتلة روسية فوق الحدود السورية التركية، حينها كانت تركيا تراهن على حلف الناتو قوتها فيه، لكن حلف الناتو كشف ضهرها أمام هذه المواجهة المباشرة مع الروس العدو الأزلي لحلف الناتو.
وكان للموقف الأمريكي “الخجول” أحيانا” و “الصامت” في أحيان كثيرة انعكاس سلبي على الموقف التركي الذي كان و لا يزال يعتبر واشنطن حليفاً استراتيجياً، لكن هذا الحليف “المتقلب المزاج” لا يزال يعطي إشارات غير مطمئنة لتركيا باستثناء بعض المواقف التي لا تتعدى أن تكون تصريحات إعلامية لم تؤخذ على محمل الجد في كثير من الأحيان.
وبالعودة إلى الواقع العسكري والسياسي في سوريا، وفي تطور لافت للأحداث واستهداف نقاط المراقبة التركية من قبل “قوات النظام السوري ” و مقتل عدد من الجنود الأتراك ، بات واضحاً أن تركيا أمام خيارين في التعاطي مع الوضع في سوريا، حيث أمهلت أنقرة “النظام السوري” نهاية شهر شباط للانسحاب إلى ما بعد نقاط المراقبة التركية، وهي المناطق التي تم الاتفاق عليها في مؤتمر “أستانة” وعلى أساسها تم تثبيت نقاط المراقبة العسكرية للجيش التركي،
أو القيام بعمل عسكري واسع يعيد قوات النظام الى ما بعد نقطة المراقبة التركية في “مورك”، بالاتفاق مع روسيا رغم عدم ثقة تركيا بالطرف الروسي
إذ لم تتصرف تركيا وفق هذين الخيارين يصبح وضعها حرجا” في المعادلة السورية.
هنا يبرز دور الوجود العسكري التركي في هذه المناطق ، ومن غير المنطقي عدم التحرك عسكريا” ضد النظام ومليشياته التي تجرأت على قصف نقاط المراقبة التركية التي وجدت بناء على اتفاق تركي – روسي، مما يُحتم على تركيا الرد بشكل حاسم وحازم، لمنع تكرار مثل هذا الفعل من قبل “جيش النظام”
وكان لتصريح وزير الدفاع التركي الأخير وقع كبير على المعادلة، عندما صرح بأن تركيا ستعمل على تنفيذ الخطط البديلة، في إشارة واضحة لامتعاض تركيا من الموقف الروسي.
وبما أن الجغرافية السياسية (Political geography) تلعب دوراً كبيراً في المعادلات السياسية، تأخذ أنقرة على عاتقها تنفيذ متطلبات أمنها القومي على المدى البعيد، الذي يشكل بعداً استراتيجياً، فيما ترتسم فيه خرائط المنطقة دون الاكتراث للحدود السياسية أو الأخذ بعين الاعتبار مصالح شعوبها.
وبذلك تفرض تركيا شيئاً من المعادلة التي تحفظ مصالحها، قبل أن يُفرض عليها واقعاً يصعب عليها _فيما بعد_ أن تغيره من مبدأ أن كل شيئ متغير في السياسة ما عدا الجغرافية.
قحطان الشرقي
كاتب وصحفي سوري/ المركز الصحفي السوري