وجّه الردّ الحازم والسريع من قبل بغداد المدعومة من طهران وأنقرة على استفتاء إقليم كردستان العراق، والذي لم يستثن الخيار العسكري في السيطرة على ما يعرف بالمناطق المتنازع عليها، وأهمها كركوك الغنية بالنفط، ضربة قاصمة لمشروع رئيس الإقليم مسعود البارزاني في إنشاء دولة للأكراد تمتد حدودها إلى مناطق سيطرة البيشمركة خارج الحدود التقليدية للإقليم.
وبدل أن يصبح البارزاني أبا لأول دولة كردية في المنطقة قابلة للحياة، بات مستقبله السياسي، ومن ورائه أسرته ذات المكانة التاريخية في النضال لأجل القضية الكردية، مهدّدا في ظلّ وجود قوى منافسة له، مستعدة للانقضاض عليه لانتزاع السلطة من يده التي بالغ في احتكارها.
ويبدو أن استفتاء الاستقلال الذي أصرّ البارزاني على إجرائه رغم الاعتراضات الداخلية والإقليمية، وحتى الدولية من قبل أكبر حليف لأربيل، الولايات المتحدة، تحوّل إلى مقامرة خاسرة ومنح خصوم البارزاني خصوصا من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير فرصة الانقضاض عليه.
ويعتبر الحزبان أن رئاسة البارزاني للإقليم باتت غير شرعية، منذ انتهاء مدّته القانونية في شهر أغسطس 2015، فيما تتهمه عدّة شخصيات معارضة بالسعي لتوريث منصب الرئيس لابنه مسرور.
وفيما قفز ورثة جلال الطالباني من قيادات ورموز حزب الاتحاد الوطني، من مركب الاستفتاء الغارق وسهّلوا زحف القوات العراقية على كركوك بضغط مباشر من إيران دعت حركة التغيير، الإثنين، إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني في إقليم كردستان العراق إلى حين إجراء الانتخابات، محمّلة ما سمّته “السياسة الفاشلة” للبارزاني مسؤولية ضياع مكتسبات أكراد العراق.
وقالت الحركة في بيان صحافي إن “إجراء الاستفتاء الذي لم يضم أي خطة.. جعل مكتسبات شعبنا أمام تهديد كبير نتيجة السياسة الفاشلة وعدم الإحساس بالمسؤولية من قبل سلطات كردستان التي كانت تستخدم معاناة الشعب لمصالحها الشخصية والحزبية”.
وتابع البيان أن “على القوى والشخصيات السياسية الوطنية القيام بمهامها لوضع خطة عامة للخروج من هذه الأزمة الخطيرة”، مشددا على أنه “لا يجوز التنازل عن الحقوق الدستورية والمكتسبات التي تحققت بالدماء”.
وأكد “ضرورة إلغاء مؤسسات السلطة والحكم وبنائه وفق أسس وطنية صحيحة وإبعاد المسؤولين عن هذه الأوضاع عن السلطة الذين أعلنوا تحمل المسؤولية في حال مواجهة كردستان أزمة جراء الاستفتاء”.
ويتضمّن هذا المطلب الأخير دعوة صريحة إلى إسقاط البارزاني وأفراد أسرته الذين يتولّون أهم المناصب القيادية في حكومة كردستان المحلّية.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية جمعت بين البارزاني وحركة التغيير التي تعتبر ثاني أكبر قوة سياسية في كردستان العراق بعد الحزب الديمقراطي علاقة تصادم، انتهت إلى منع أعضاء الحكومة ونواب البرلمان المحلّي التابعين للحركة من مزاولة وظائفهم في أربيل عاصمة الإقليم ما سبب شللا في مؤسّسات الإدارة المحلّية.
ولا يمثّل إسقاط البارزاني هدفا لخصومه الأكراد فقط، بل إن له في العراق الكثير من الأعداء السياسيين، الذين يرون الظرف مناسبا لـ“إعدامه” سياسيا من بينهم قادة كبار في الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، على غرار رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي بادر بشنّ حملة شعواء على الرجل متهما إياه بالخيانة والتواطؤ مع إسرائيل.
كما وجد المالكي الذي يقود حزب الدعوة الإسلامية الحاكم، في الاستفتاء فرصة سانحة لتجديد الهجوم على خصمه البارزاني، ولاتهامه بالمسؤولية عن غزو داعش للموصل وما بعدها، جاعلا من الرّجل شماعة لتعليق تلك الكارثة التي حلّت بالعراق في نهاية الولاية الثانية للمالكي نفسه، في استغلال واضح لمشاعر قسم من العراقيين الغاضبين من البارزاني.
ومثّل الزحف المفاجئ للقوات العراقية ليل الأحد-الإثنين على مواقع في كركوك كانت تحت سيطرة قوات البيشمركة الكردية بالتزامن مع زحف ميليشيات الحشد الشعبي على قضاء طوزخورماتو بشمال محافظة صلاح الدين، عمليا إسقاط “حدود الدمّ” التي كثيرا ما قال مسعود البارزاني إنّ القوات الكردية بصدد رسمها للإقليم، في إشارة إلى المناطق التي دخلتها البيشمركة بعد زحف تنظيم داعش على المناطق العراقية بدءا من سنة 2014، حيث ملأت تلك القوات الفراغ الذي تركته القوات الاتحادية المنهارة أمام زحف التنظيم، كما انتزعت مناطق أخرى من يده واستولت عليها ليشملها بعد ذلك الاستفتاء المذكور في إشارة إلى أنّها ضمن حدود الدولة الكردية التي سعى البارزاني لإقامتها.
وتمكنت القوات العراقية خلال ساعات من استعادة السيطرة بشكل كامل على حقول نفطية ومطار كركوك العسكري وأكبر قاعدة عسكرية في المحافظة كانت قوات البيشمركة الكردية سيطرت عليها في 2014. وجاء تقدم القوات سريعا في ظل انعدام المقاومة من قوات البيشمركة.
وفي شمال محافظة صلاح الدين، سيطرت ميليشيات الحشد الشعبي على قضاء طوزخورماتو، ونصّبت التركماني الشيعي عادل شكور في منصب قائممقام خلفا للكردي شلال عبدول الذي انسحب مع قوات البيشمركة.
وفي خطوة هي الأكثر رمزية ضمن الحملة العسكرية للقوات العراقية، سيطرت قوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية، الإثنين، على مبنى محافظة كركوك الواقع وسط المدينة بعدما انسحبت قوات البيشمركة المسؤولة عن حمايته.
ودخل قائد الشرطة الاتحادية مبنى المحافظة. ونشر ناشطون صورا لضباط عراقيين جلس أحدهم على كرسي المحافظ نجم الدين كريم أحد أكبر المتحمّسين لاستقلال كردستان، وكان بادر قبل إجراء الاستفتاء برفع علم الإقليم على المباني الرسمية في كركوك، وقد أنزلته القوات العراقية، الإثنين، وأبقت على العلم العراقي وحده.
ولم تخل الحملة من تبعات إنسانية. ورغم تطمينات حكومة بغداد لأكراد كركوك، فقد سادت حالة من الذعر صفوف الكثيرين منهم ودفعت الآلاف إلى النزوح في قوافل وأرتال من السيارات والحافلات غصّت بها الطرقات نحو أربيل والسليمانية المدينتين الرئيسيتين في إقليم كردستان العراق.
العرب