الفساد والرشوة والسرقة التي كانوا يزاولونها قبل أن يذهبوا إلى الصلاة.
أما استسهال الدين فهو ركوبه كمطية، وتسخيره، بصفاقة، لما فيه خدمة شخص أو حزب أو حكومة، وهو ما فعله ويفعله فرقاء كثيرون لا يجمع بينهم جامع. فعل ذلك بشار الأسد حين ضاق عليه الخناق بعيد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، فهتف: “سورية الله حاميها،” ثمّ أطلق أيدي غلاة رجال الدين (ونسائه) في المجتمع، وعقد معهم صفقةً يتخلّى لهم فيها عن المجتمع والثقافة، ويتخلون هم له بالمقابل عن الاقتصاد والسياسة، وسلّمهم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فسَرَحتِ القبيسيات في أحياء المدن الراقية، وألغت مدارسُ إسلامية درس الفائدة في منهاج الرياضيات، ودرس التكاثر البشري في علم الأحياء.
ولكن الأسد سرعان ما ارتدّ عن سياسته، حين خرج السوريون إلى الشارع في مارس/ آذار 2011، حيث قرّر، على لسان مستشارته للشؤون السياسية والإعلامية، بثينة شعبان، أن الحراك إسلامي متشدّد، يبغي إقامة إمارة سلفية في سورية، فحوّل مساره، وابتغى “العلمانية” سبيلا يقنع بها المتخوّفين من مؤيديه بأن الثورة ستكون نهايتهم.
ثمّ استسهل الدينَ آخرون، بينهم بالطبع من ركب ظهر الثورة السورية وحوّلها إلى ارتزاق، فجعل الدين مطيةً له ليصل إلى الثروة والسلطة، حين كانت الأموال تنصبّ على السوريين الذين يتنكبّون السلاح بقدر تشدّدهم، فكلما تشدّد خطابهم وطالت لحاهم وارتفع تكفيرهم شركاءهم في الوطن ازداد دعمهم، ويستحسن بالطبع أن يكون اسم فصيلهم موحيا بمرجعيةٍ دينيةٍ سلفية. ثمّ حين انحسر ذلك كله، لم يجد بعضهم غضاضة في التخلّي عن تشدّده، فسعوا إلى رغد الحياة في المهاجر، تاركين من غرّروا بهم تحت قبضة النظام وسطوته. بل إن
بعضهم ترك السلاح نهائيا وطلب العلم في أوروبا، كما فعل مجدي نعمة الذي عُرف باسم إسلام علّوش، والذي تحوّل بين ليلة وضحاها من قياديٍّ في جيش الإسلام الذي أرهب المواطنين، واختطف ناشطين مدنيين في مدينة دوما، إلى باحث في الشؤون السورية.
وآخر ما ورد في مجال استسهال الدين في شمال غرب سورية هو إعادة هيئة تحرير الشام الإسلامية المتطرّفة إحياء هيئتها الخاصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد مرور عامين على إنهاء “سواعد الخير”، بعد ضغط شعبي كبير عقب القيود الكثيرة التي فرضتها طوال فترة وجودها فضلاً عن الاعتقالات التعسفية وتضييق الخناق بشكل كبير. وستتأكد الهيئة الجديدة من منع الاختلاط في المطاعم والمكاتب وغيرها، ومنع وجود امرأةٍ غير محرمة مع صاحب محل، ومنع بيع الرجال للألبسة النسائية، وغيرها.
ولأن الأحداث التاريخية تكرّر نفسها، كما يقول هيغل، ولأن تكرارها يكون غالبا على هيئة مهزلة، كما يضيف ماركس، كان آخر من استسهل الدين مهزلة حقيقية، فظهر علينا فجأة الرجل نفسه الذي نهب البلاد والعباد واقتسم المزرعة مع ابن عمّته، بشار الأسد، على هيئة زاهد، فافترش الأرض وتعلم بعض العبارات الدينية، واستخدام حركة اليدين والعينين ليوحي بأنه قد فوّض أمره إلى الله، في محاولة منه لجرّ بعض من تؤثّر به العبارات الدينية وتثير
عواطفه مشاهد الضعف.
ولأن رامي مخلوف النسخة المهزلة من بشار الأسد وزهران علوش وشركائهما، أثار أداؤه السخرية بدل التعاطف، ودان نفسه بنفسه، حين اعترف أنه كان يدعم الجيش السوري والأجهزة الأمنية بل إنه كان “خادما” لهم. يقول: “هل كان أحدٌ يتوقع أن تأتي الأجهزة الأمنية إلى شركات رامي مخلوف، أكبر داعم وأكبر خادم وراعٍ لهذه الأجهزة أثناء الحرب؟ ولكن للأسف بدأت الأمور تنقلب بطريقة مختلفة”. يأتي هذا الاعتراف الضمني ليثبت أن رامي مخلوف شريك أساسي في كل الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري خلال السنوات الماضية، وخصوصا إذا ذكرنا أنه حوّل أنشطة “جمعية البستان الخيرية”، منذ بدء الاحتجاجات السلمية في مارس/ آذار 2011، إلى نشاطات داعمة لجهود النظام في قمع الشعب حيث زود عناصر الجمعية بالمال والسلاح، وساعد النظام على الالتفاف على العقوبات الأوروبية والأميركية المفروضة عليه.
لقد مرّ حينٌ من الدهر، انخدع فيه بعض السوريين باليافطات الدينية التي رفعها هذا الفريق أو ذاك، وتظاهر آخرون بالانخداع ليؤمّنوا لقمة عيش لأولادهم، ولكن الغشاوة بدأت تزول عن العيون، ونحن نتذكّر القول المشهور إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كلّ الوقت، وكلّ الناس بعض الوقت، ولكنك لا يمكن أن تخدع كلّ الناس كلّ الوقت. أليس كذلك؟