لا تبدو المعارضة السورية، السياسية والعسكرية والمدنية، في أفضل أوقاتها أو أحوالها، لأسباب عديدة، ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، وهذا لا يتعلق بها فحسب، فالنظام لم يعد يملك القوة ولا القدرة على السيطرة من دون الإسناد العسكري الخارجي، لاسيما من روسيا.
وإذا كان نظام الأسد لا يهمه، أو لا يبالي، سوى باستمرار سلطته على سورية والسوريين، ولو كانت شكلية، أي من دون سيادة فعلية، فإن المعارضة تبدو هي المعنية بتعزيز وجودها وشرعيتها، إزاء السوريين، وإزاء العالم.
وتتمثل مشكلة المعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، في أنها مفتّتة، وهذا لا يعني افتراض وجود تطابق أو اندماج بين مكوناتها، بقدر ما يعني أنها غير منتظمة، وأنها لا تشتغل على أساس تكاملي، وأنها ما زالت غير قادرة على مواجهة هذه المشكلة وحلها، بإيجاد إطار جامع ومنظم، ويضمن حال التنوع والتعدد في المجتمع السوري وتياراته السياسية، مع كل التقدير للجهد المبذول في تشكيل «هيئة المفاوضات».
مشكلة هذه المعارضة، أيضاً، أنها ما زالت تشتغل بمعزل عن حواضنها المجتمعية، ومن دون أي توسّطات أو شبكات متبادلة، في واقع تبدو فيه غالبية السوريين خارج معادلات الصراع، أو ضحية له، من دون أن يكون لها قدرة للتأثير عليه، بحكم انكسار كتلها الاجتماعية، بواقع تشرّد الملايين من السوريين أو بسبب خضوعهم للحصار أو لعلاقات الاستبعاد والتهميش، سواء في مناطق سيطرة النظام، أو في ما يعرف بـ «المناطق المحرّرة»، وهذه معضلة كبيرة في الواقع السوري.
فوق هذا وذاك، ثمة مشكلة كبيرة تتعلق بضعف إدراك المعارضة مكانتها ودورها، كما بمدى استثمارها هذه وذاك، إذ ما زالت حتى الآن غير قادرة على تطوير واقعها، بالتحول إلى طبقة سياسة واعية لذاتها، ولمهمتها في إثبات نفسها وشرعنة وجودها كبديل للنظام، وكممثل للسوريين، إذ لا يظهر ذلك في إدراكاتها السياسية، بقدر ما يظهر أنها تستكين فقط أو تنضبط للدور المرسوم لها من الفاعلين الدوليين والإقليميين، من دون أن تفعل شيئاً لإضفاء شرعية شعبية على شرعيتها الرسمية، أو لجهة تطوير أحوالها، بتوسيع هيئاتها، على قواعد مؤسسية وتمثيلية وديموقراطية.
بيد أن ثمة مشكلات أخرى خارجية للمعارضة تنبع أساساً من ضعف الإطار الدولي والعربي الداعم لها، أو من عدم حسمه موقفه في تقديم الإسناد لها، كما تنبع من تحوّل طبيعة الصراع، من الصراع في سورية إلى الصراع على سورية، ما يعني وجود مداخلات أو تخليق طبقات خارجية، تقيّد كفاح السوريين وتطيل عذاباتهم وتضرّ بصدقية ثورتهم، وتؤثر سلباً على مسارهم التحرّري.
وبديهي أن ذلك لا يتوقّف على «الحرس الثوري» الإيراني وقوات «حزب الله» و «كتائب أبو الفضل العباس» و «عصائب أهل الحق» ولواء «فاطميون» وغير ذلك من ميليشيات، تشتغل كذراع إقليمية لإيران في دعم النظام، إذ إنه يشمل تنظيم «داعش» الذي يقاتل «عناصر «الجيش الحر» أكثر مما يقاتل النظام، و «جبهة النصرة» (المحسوبة على القاعدة»)، والتي تشتغل وفق أجندة أخرى مضرة بإجماعات السوريين وبمقاصد ثورتهم، كما يشمل ذلك و»حدات حماية الشعب» (المحسوبة على حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي») التي تشتغل وفق مشروع خاص يشكّل نوعاً من انشقاق في الثورة السورية، ويشتغل بطريقة لا تضر بالنظام، وبطريقة تجعله يصطدم مع المعارضة، كما ببعض مكونات المجتمع الكردي.
لكن التطور الأهم والجديد في هذه المداخلات يتأتّى من التدخّل الروسي، الذي بات لاعباً عسكرياً أساسياً ومباشراً في الصراع السوري، بعد أن كان دوره يقتصر على الدعم السياسي والاقتصادي، كما يتأتى ذلك من التردّد الأميركي، إذ باتت الإدارة الأميركية تبدو، في هذه المرحلة، وكأنها أخذت على عاتقها تلزيم سورية إلى روسيا، ولو إلى حين.
الفكرة أن الصراع في سورية وعليها سيستمر، في المدى المنظور، فمرة يغلب هذا الشكل ومرة ذلك الشكل، وفي معظم الأحيان سيتداخل الشكلان، مع بقاء الغلبة للعامل الخارجي، بحكم ضعف إمكانات الطرفين المعنيين، أي النظام والمعارضة، وارتهانهما للإسناد الخارجي، السياسي والمالي والتسليحي، وفي الغضون فإن كلمة السر هنا هي عدم السماح بغلبة طرف على آخر، فلا النظام يربح ولا المعارضة تخسر، لا النظام ينهزم ولا المعارضة تنتصر.
ولعل معضلة السوريين الأساسية، في هذا السياق، أن بلدهم يجاور إسرائيل، وان سورية ليست بلداً نفطيا، وأنها بلد مفتاحي في المشرق العربي، بمعنى أنها، من بين كل الثورات الحاصلة في مصر وليبيا وتونس واليمن، هي التي تفتح على تغييرات أخرى في عموم المنطقة، ولا سيما في المشرق العربي، وهو ما لا يلائم العديد من الأطراف.
وتفيد تجربة السنوات الماضية أن الولايات المتحدة هي التي تملك الفصل في تسيير دفة الأحداث السورية، أي أنها حتى في دورها السلبي والانكفائي، على ما يظهر، هي التي توزّع الأدوار وهي التي توسّع أو تقلّص هامش تدخّلات الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، ومن ضمنها أنها هي التي تتيح حتى لإيران وروسيا إسناد النظام، تماماً مثلما هي التي تسمح بأدوار أخرى لتركيا وغيرها من الدول العربية في الإسناد المحدود للمعارضة، الأمر الذي تنبغي ملاحظته والاشتغال عليه بالطريقة المناسبة.
وفقاً لهذا العرض، فإن المعارضة، بهيئاتها السياسية والعسكرية والمدنية، سيما القوى الفاعلة فيها أو المشكّلة لها، معنيّة بإجراء مراجعة نقدية ومسؤولة لأوضاعها: خطاباتها، ومساراتها، وأشكال عملها، وعلاقاتها بمجتمعها، لأن السير على ذات الطريق الذي سارت عليه في السنوات الماضية لن يؤدي إلا إلى تآكل صدقية الثورة، وانحسار دورها كمعارضة، وتالياً تبديد معاناة وتضحيات السوريين، وهو الأمر الذي يفيد النظام ويطيل أمد حياته.
في هذا الإطار ثمة استحقاقات وتحديات لا بد للمعارضة من تقديم الإجابات عليها أو مواجهتها، ولا سيما المتعلقة بالجوانب الآتية:
– إعادة تنظيم ومأسسة نفسها، بتشكيلاتها السياسية والعسكرية والمدنية، وتوسيع إطاراتها، وتدعيم شرعيتها الرسمية بشرعية شعبية، عبر تشكيل هيئات منبثقة منتخبة في مؤتمرات شعبية حيث أمكن في الداخل، وحيث توجد تجمعات أو جاليات سورية في الخارج، لأن البقاء على ذات الوضع هو وصفة للضياع والتشتت وفقدان الصدقية وانعدام الجدوى.
– القطع مع الجماعات العسكرية التابعة لكل من «داعش» و «القاعدة». وأصلاً، لا تعترف هذه الجماعات ولن تعترف بالثورة السورية ولا بمقاصدها، ولا تنضوي في أي من أطرها، بل إنها تعاديها أو تقاتلها، ولا تجدي في هذا الإطار المراهنة على هذه القوى أو اعتبارها مقاتلة للنظام، وهو ما أثبتته التجربة.
– إيجاد مقاربة سياسية مناسبة للقضية الكردية، وللتمثيل السياسي للكرد السوريين، في هيئات المعارضة، وضمنه صوغ خطابات لا تقلل من الصبغة القومية للشعب الكردي، ولا من وحدة سورية، ولا تعادي الصيغة الفيدرالية التي تتأسّس على قاعدة جغرافية (لا إثنية ولا طائفية) وضمن نظام ديموقراطي، وباختصار لا ينبغي ترك المكون الكردي لتلاعبات النظام والقوى الخارجية.
– التشبّث بالخطاب السياسي الذي ينبذ الاستبداد، ويتمسك بالمنطلقات الأساسية للثورة المتعلقة بإنهاء نظام الاستبداد، وإقامة دولة مدنية ديموقراطية، لا دينية ولا عسكرية، دولة مؤسسات وقانون ومواطنين أحرار ومتساوين، تحافظ على تعددية وتنوع المجتمع السوري وتغتني بهما، من دون هيمنة واتباع.
– مراجعة العمل المسلح وتصويبه، إذ إن استسهال التحول نحو الثورة المسلحة، والتسرع في التعويل عليها، كان له كبير الأثر في وصول الثورة إلى هذا المأزق، بالنظر إلى ضعف إمكاناتها، مع التقدير لكل التضحيات والبطولات التي بذلت. وطبعاً، فإن الحديث هنا لا يتناول الأفراد أو ظاهرة جماعات الدفاع الأهلية، أو المنشقين عن الجيش (الجيش الحر)، وإنما الجماعات العسكرية التي جرى ترتيبها من الخارج ودعمها، على حساب «الجيش الحر»، لفرض أجندة معينة، أو لصبغ الثورة بلون معين.
– التشبّث بقرارات المجتمع الدولي الخاصة بتشكيل هيئة حكم انتقالية كممهد للتغيير السياسي في سورية، والتجاوب مع العملية التفاوضية على قاعدة وقف كامل للقصف ووقف الأعمال القتالية، وإدخال المواد التموينية والطبية إلى المناطق المحاصرة والإفراج عن المعتقلين، مع الحرص على عدم تحويل القضية السورية، وهي قضية سياسية، إلى مجرد قضية إنسانية.
الحياة – ماجد كيالي