قبل الخوض في اتون الصراع المذهبي او الطائفي الذي توسع واستفاض امره فدخل كل بيت حتى اصبح جزءاً من مخيلة العقل الديني في المنطقة العربية ، فانه من المهم البحث في اتون الاستفهام وادراك حقيقة اذا ما كانت ايران متورطة في الباس الصراع ثوب الطائفية واشعال المنطقة في دوامة من العنف لا تنتهي في أي حدود وجد فيه هذا التنوع المذهبي ، ام ان ايران سُحِبت الى هذا الصراع من قبل خصومها، للدفاع والحفاظ على دورها المؤثر الذي اكتسبته بصورة لية بعد احتلال العراق 2003,
وعند العودة الى المراجعات التاريخية نجد ان ايران أصبحت جمهورية إسلامية بعد ثورتها عام 1979 وتبنت نهج تصدير الثورة الإسلامية، ورغم كل ما حملته هذه المرحلة من ضوضاء الا انها لم تأتي مبتغاها، لا سيما في الحرب الإيرانية-العراقية 1980-1988، الا ان ايران استمرت في بناء ذاتها رغم الإخفاقات بعد التحولات الكبرى في النظام الدولي المتمثلة بتفكك الاتحاد السوفيتي ، وحتى على المستوى الإقليمي بعد تورط العراق باحتلال الكويت 1990-1991. هذه الاحداث اتاحت الفرصة الى التزام ايران موقفاً غير عدائي رغم ان القواعد الأميركية قد اقتربت من مياهها وحدودها مما يهدد كيانها ، واستمرت هذه السياسية حتى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 ، الذي اشر تهديد امنها القومي ، ومن هنا جاء التحول الثاني بالتدخل الخفي في العراق من خلال دعم بعض صفوف المقاومة (الشيعية) والمليشيات المرتبطة بها لأهداف تتعلق بأمنها ، وهذه هي النقطة الفارقة لتوصلنا الى الإجابة الحقيقة على التساؤلات التي تم طرحها في استهلال موضوعنا .
هل ان ايران هي من خلقت مذهبية الصراع في المنطقة العربية ؟
في العودة الى جذور الثورة الإسلامية الإيرانية نجد ان لها مآرب ابعد مما تكون عليه هذه الصورة ، فالتنميط الديني انما هو امر فوقي للسياسة الإيرانية وبالتحديد (المذهب الشيعي) ، وهي تعمل جاهدة وبحنكة الى استبطان الحقيقة لدوافع مضمرة تمثل جوهر الحقيقة التي نبحث عنها والتي قد يغفل عنها البعض من المتعاطفين .
لا غرو وبما لا يحمل الشك ان ايران دولة تستخدم العقيدة الدينية وفي مقدمته المذهب لتحريك ادواتها الخارجية عبر محفزات الدفاع عن المذهب وحمايته من التهديدات وذلك من خلال خلق جبهات متقدمة دفاعية لها كقوة إقليمية مؤثرة كجزء من الايدلوجية الرسمية ، واذا كان من يعتقد ان ايران هي حامية المذهب فهو مخطئ لأن الأخيرة تعد نفسها امة إيرانية (فارسية) قبل كل شيء وان المذهب يأتي تباعاً.
وان هذا الامر ان دل على شيء فإنما يدل على القدرة التي تملكها ايران في توظيف الايدلوجية الدينية كقوة ناعمة لكسب العقول وترويض القلوب وفق ديناميكية شعائرية تحتضنها من جهة وسياسية معلنة من جهة أخرى – مثل تهديدها المستمر بضرب إسرائيل وتدميرها وحتى المصالح الأميركية بيد ان خفايا السياسة الإيرانية تختلف جذرياً عن المعلن كما تشير اليه الوقائع .
واذا ما اخذنا امثلة على حالة العراق ولبنان والبحرين واليمن فان الفرادة التاريخية والدينية بشقيها العقائدية والفقهية تخبرنا بوجود فجوة كبيرة ما بين المؤسسات الدينية والأصول الفكرية فيما بين (شيعة) المنطقة ، فالحوزة العلمية الدينية في النجف لاتؤمن بولاية الفقيه وان الدولة الإسلامية المرجوة لا يمكن ان تحكم الا بظهور المهدي (المنتظر)، على عكس حوزة (قم)، لذا تحاول ايران ان تكون المركز ويتبعها الأطراف .
وكذلك الحوثيين في اليمن فهم يختلفون مع ايران على نفس الوجه ولا يؤمنون بولاية الفقيه كأصل من أصول الدين كفكر ، اما العلويين (النصيرية) في سوريا ، فان هناك الكثر من مراجع الشيعة من يعدهم من الضالين بل يتعدى ذلك الى تكفيرهم بسبب تاليه الامام علي في احدى وجهات النظر وكونهم من الفرق الباطنية .
ولست بصدد الخوض في اتون الاختلاف المذهبي والديني والبحث عن تبريرات الافتراق ، ان ما اريد ان اوصله الى ذهن القارئ فكرة رئيسية ومهمة، وهي ان ايران استطاعت ان تصهر كل هذه الاختلافات وفي مدة وجيزة في بوتقة واحدة لصالحها ضد التحديات والتهديدات ، وهذا ما عزز ان يكون لها تروس متقدمة في العراق وسوريا والبحرين واليمن … الخ ،جبهات خارجية متعددة .
أسباب مذهبة الصراع في المنطقة العربية :
في نظرة فاحصة في حال المنطقة العربية ما بعد 2003 وصولاً الى اندلاع ما يسمى ب(ثورات الربيع العربي) 2011 وما بعدها ، نلحظ ان ايران في هذه المرحلة ادركت حجم المخاطر التي تواجهها من قبل المجتمع الغربي تتقدمهم الولايات المتحدة الأميركية من حصار اقتصادي وعقوبات دولية على برنامجها النووي ، فضلاً عن التحدي الداخلي مع اندلاع الاحتجاجات في 2009 او ما سمي (بالثورة الخضراء)، التي اجهضت فيما بعد.
هذا الادراك اعطى حالة الإنذار القصوى واشر لدى صانع القرار الإيراني الى ضرورة استخدام استراتيجية الحذر التي تعتمد على اركان المرونة والمراوغة والتأجيل في الاستجابة لكل هذه التحديات هذا من جهة ، من جهة أخرى اعتمدت ايران على تكنيك توسيع دائرة نفوذها وحماية بؤر النفوذ والتي كان:
العراق أولها وهي من اقرب الجبهات بل انها طريقها للكل مراكز نفوذها في المنطقة العربية ،الا انها استطاعت من إدارة الأمور بما يتوافق وتطلعاتها وبالتراضي مع خصومها المؤثرين في الشأن العراقي الولايات المتحدة الأمريكية وهذا بدا واضحاً في كثر من المعطيات بل ان القرار الأميركي لا يمكن ان ينفذ الا بمباركتها .
اما سوريا : فهي من اصعب الجبهات الامامية التي ارقت ايران بسبب تداخل الفواعل الدوليين والاقليمين والفواعل من غير الدول ، فهي مستنقع استنزاف اقتصادي وعسكري (بشري) ، وادركت ايران في هذا الصراع الذي غلفته بالمذهبية انها ما بين المطرقة والسندان .. فخسارة سوريا يعني خسارة نفوذها الخارجي ويضع وكلائها من المليشيات في موقف الضعف كحزب الله اللبناني، وستخسر العراق غير المستقر في كثير من اجزائه المتقاطعة مع أيدولوجيتها . لذا فهي قد اعتمدت في هذا الصراع على خلق مليشيات وكيلة تقاتل عنها تناغماً مع نوع الصراع هناك ، وهي بذلك واقعة ما بين سندان الازمة السورية ومطرقة الاستنزاف الذي سحبته اليه تدريجياً الولايات المتحدة الأميركية .
اليمن : كان اخر الخطوات الناجحة لإيران في استغلال الوضع السياسي الهش في اليمن ، فالدعم الإيراني للحوثيين غير محدود الا ان نفوذهم كان لا يتجاوز (صعدة) واستغلال المذهب لتحركيهم كالدمى .. حتى تفاجئ العالم بتوسعه الكبير الى حدود لم يكن يحلم بها الى البحار والسيطرة على الموانئ ومؤسسات الدولة المختلفة في أجزاء واسعة من اليمن ، هذا التحول الكبير كشفت عنه الأيام بتعاون انصار “علي عبد الله صالح” الذي اطاحة به ثورات الربيع العربي الأخيرة مع الحوثيين وتقاسم السلطة .. الا ان ما يعقد هذا المشهد الدعم الدولي لحكومة ” عبد ربه منصور هادي” .
ويمكن ان نستخلص ذلك بالتأكيد على ان ايران مذهبة الصراع بالاعتماد على مجموعة العناصر:
1- الاعتماد على الوكلاء
2- استخدام العنف المتدرج
3-التركيز على الأبعاد المعنوية والنفسية والروحية للصراع
4- الصبر الاستراتيجي.
وبعد الوقوف على أرضية تسعفنا لفهم تسيس الدين ومذهبة الصراع لإقامة خطوط دفاعية لإيران الا ان لهذه السياسات انعكاسات ودرات فعل مباشر او ارتدادية في المستقبل :
1. ان محيط ايران ومناطق نفوذها الممتدة خارج حدودها ذو غالبية عربية –سنية ، وان معظم خصومها من الدول لها علاقات متينة مع الولايات المتحدة الأميركية .
2. ان فكر تنظيم القاعدة والجماعات الراديكالية تتغذى على الصراع المذهبي وبصورة طردية، فكلما توسعت سياسات الصراع توسع نفوذهم .
3. ان الافراط في تعدد الجبهات والاعتماد على الوكلاء من الفواعل غير الدولية والأحزاب الموالية يستنزف جهد ايران على مختلف المستويات الاقتصادية والعسكرية وحتى القدرات المعنوية لان روح المطاولة تتطلب الاعتماد على تلبية متطلبات الداخل الإيراني قبل الخارج.
هذه المقاربات هي ما تسعى اليه الولايات المتحدة الأميركية من خلال خلق ثنائيات العنف والنقيض ونقض النقيض في دوامة لا تنتهي من الصراع والعنف وبطريقة تتكا على استراتيجية إدارة التغيير عن بعد وفق منسجم القوة الذكية دون ان تخسر جندي واحد والهاء خصومها –ايران وغيرهم بصراع يفضي الى حماية مصالحها القومية العليا وامن (إسرائيل) التي تقبع في اشد المناطق صراعا في العالم.
د. سيف نصرت الهرمزي – مركز الشرق العربي