يبدو أنّ واقع لغة الضاد بين أبناء الجاليات العربية التي تقيم في أوروبا لا يبعث على التفاؤل قط، فكثيرون منهم بدأ يتخلى عن لغته الأم، لتحل مكانها لغة البلد الجديد؛ إذ لا يقوى بعض الشباب من ذوي الأصول العربية في القارة الأوروبية على قراءة نص عربي قصير، ولا يُجيدون مبادئ الكتابة أيضا، مما يبعث على القلق بشأن تلاشي كافة معالم لغة الآباء عن ألسنة الأبناء.
أواصر مفقودة
في محاولةٍ حثيثة للوصول إلى الأسباب التي أدت إلى هذا التخلي عن العربية، تواصلت الجزيرة نت مع رئيسة التجمع الدولي للمعلمين الفلسطينيين يسرى عقيل، التي تقيم في مدينة مانشستر الإنجليزية.
وقالت عقيل “في اعتقادي أن الأسرة تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية في ما يخص تراجع مستوى اللغة العربية بين أبناء الجاليات العربية في أوروبا، إذ إن الآباء في كثير من الأحيان لا يشجعون أبناءهم على دراستها، ولا يخصصون لها وقتا وجهدا كافيين، ولا يستشعرون الخطر أيضا”.
وأضافت أن “بعض الأولياء وعقب وصولهم إلى أوروبا انبهروا بمستويات التعليم، وقارنوا بين واقع التدريس في وطنهم الأم والواقع التعليمي في أوروبا، ليجدوا أن الفوارق كبيرة جدا، الأمر الذي دفعهم إلى تشجيع أبنائهم على تسخير كل جهودهم لتعلّم اللغة الجديدة، على حساب اللغة العربية، التي لم يجدوا لها ولو ساعتين في الأسبوع، بعدما أُرهِق بفعل ساعات العمل الطويلة في أوروبا، مما أدى إلى ذوبان الأبناء في المجتمعات الأوروبية، بعيدين كل البعد عن الأواصر العربية التي تربطهم ببلاد المهجر”.
وتضيف عقيل أنّ طبيعة البلد الجديد تُحَتّم على الأبناء الانشغال بمنهاجهم الجديد، الذي لا يهتم إطلاقا باللغة العربية؛ إذ لا يستطيع الطالب التوفيق بين لغته الأم، ولغة المجتمع الجديد التي تفرض نفسها عليه بقوة الواقع والجغرافيا.
كما حمّلت عقيل جزءا من المسؤولية للمؤسسات العربية والإسلامية الفاعلة في الساحة الأوروبية، بسبب عدم التنسيق والتعاون في ما بينها، وعدم إعطاء القضية حقها الكافي من الجهد والوقت، وإسداء مهمّة تدريس اللغة العربية في المدارس إلى مدرسين ليسوا من أهل الاختصاص في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى ضعف الإمكانات المادية التي تشكّل عائقا كبيرا أمام أيّة محاولة لتطوير التعليم، إذ إن إحدى المدارس العربية في مدينة مانشستر الإنجليزية، يترتب عليها سنويا أن تدفع ما يقارب خمسين ألف دولار تكلفة الإيجار، حسب قولها، وهذا ما تعجز عنه المدرسة.
جهود الحل
وأمام هذه الأحوال المُستعصية، دأب أبناء الجاليات العربية في أوروبا -خاصة الواصلين حديثا- إلى البحث عن حلولٍ سريعة، للنهوض بواقع اللغة العربية هناك، وذلك من خلال إرسال أبنائهم إلى المساجد والمدارس العربية، لإنقاذ العربية قبل هلاكها على ألسنتهم، والبحث عن خطوات جديدة للحيلولة دون ذلك.
تواصلت الجزيرة نت مع مدير مدرسة “سما أونلاين” المحامي إياد عطا الله الذي يقيم في هولندا، وقال إن مدرسته في طور الانطلاق حاليا، وهي معنية بتدريس اللغة العربية عن بُعد، لكي يتسنّى للطلاب تعلم اللغة العربية خارج أوقات دوامهم في المدارس الأوروبية، “حيث يتم تنظيم صفوف افتراضية، وكل صف يضم ما يقارب ستة طلاب تقريبا مع مدرّسهم، وتُعطي المدرسة الأولوية في التدريس إلى المعلمين الحاصلين على شهادات اختصاص لغة عربية، والذين لديهم تجربة سابقة وخبرة في مجال تدريس اللغة العربية”.
وأفاد عطا الله بأن منهاج المدرسة أشرف عليه اختصاصيون ذوو خبرة، وقسموه إلى خمس مراحل، تبدأ من تعليم مبادئ الكتابة والحروف العربية، وتنتهي بمرحلة متقدمة من الإعراب والمحادثة والقراءة والكتابة.
وتضم المدرسة أيضا شبابا تصل أعمارهم إلى 15 عاما، حيث يوضعون في صفوف مستقلة، ويشرف عليهم مدرّسون حاصلون على شهادات جامعية”.
وأعرب عطا الله عن تفاؤله الكبير بهذه الخطوة، وذلك من خلال حجم الاتصالات الهائلة التي بدأ يتلقاها من كافة البلدان الأوروبية، للاستفسار عن وضع المدرسة، كما أفاد باهتمام وسائل الإعلام عبر نشرهم الخبر، والاتصال بمدير المدرسة للحصول على مداخلات صحفية حول الأمر، وأشار إلى أن المدرسة تهدف إلى عقد لقاءات دورية على أرض الواقع بين الطلاب مع أهاليهم والمدرسين، من أجل التعارف وتقوية العلاقات والروابط الاجتماعية أيضا.
الطالبة العراقية فَنَان أعربت عن تفاؤلها الكبير بهذه المدرسة، وسعادتها الوفيرة لأنها ستستعيد ما نسيته من معلومات حول اللغة العربية في سنوات غربتها، وقالت للجزيرة نت إنها منذ وصولها إلى النمسا قبل نحو أربع سنوات لم تتلقَّ درسا واحدا في اللغة العربية، وبالتالي فإن إطلاق مدرسة “سما أونلاين” سيوفر لها ولزميلاتها فرصة سانحة لاسترجاع العربية، ومبادئ القراءة والكتابة”.
وما بين المد والجزر، تبقى اللغة العربية ضحيةَ الهجرة نحو القارة الأوروبية، لكنّ كثيرين من أولياء الأمور وبعد استشعارهم الخطر المحدق، راحوا يبحثون عن الحلول، لعلهم يحافظون على الرابط الأخير الذي يؤلف بين قلوبهم المتبعثرة على امتداد القارة الأوروبية”.
نقلا عن: الجزيرة