صوت يضج به العراء، قليلٌ من النوم، كثيرٌ من الصحو؛ أو على العكس تماماً. قمع مستجد «خليك بالبيت» كبت آخر. ذئبٌ يترصدك خارجاً؛ فتُباح العزلة لكائن اجتماعي الأصل. تسأل النفس وجودها: ما هذا الكائن اللامرئي، الغريب المقلق، غير المألوف. غرابة محملة بكل المخاوف، تنخر ويتوالد من رحمها قلق السؤال، حيث يندفع الصوت «الآخرون هم الجحيم»، مع تغاير الدلالة وصوابية المعنى. أضحى الآخر؛ أي آخر، ملتبساً؛ غير موثوق، مثار رهبة. بدئية الاستجابة، وتناقضاتها وجدانياً، استجابة قديمة قد تكون حتى قبل اكتشاف الجراثيم.
يلج الإنسان طرقا جديدة في البحث مغامراً، محاولاً فهم العلاقة الملتبسة الناشئة بين الناس والعالم الخارجي، الذي تجري تحولاته الغريبة والغامضة، بمكون إبداعي، كما على سبيل المثال لا الحصر: النكتة، الأغنية، أو الكتابة؛ لمحاكاة الواقع، ولكن بطريقة لا واقعية، غرائبية، التي تشكل انزياحاً عن المألوف الإنساني، تعبيرا عن محاولة لكسر القهر. كما في كتابات ما سمي بـ»الواقعية السحرية» مثال: روايات أمريكا اللاتينيّة، أخص منها كاتباً هو غابرييل غارسيا ماركيز؛ فمن غير المستبعد وجود رواية «الحب في زمن كورونا»، على غرار رواية «الحب في زمن الكوليرا».
ويبقى الإنسان مكتوف اليدين في عالم غريب، عاجزا، مشوشا… بدائيا غير قابل للزوال ذهنياً، ومهما كانت خلفيته الثقافية، يكون أكثر انقياداً للسائد؛ الداخل، وأقل قبولاً للمختلف، والمخالف؛ الخارج.
إنه القلق، الرهبة من الخارج تؤكد غريزة الجموع، فيصبح الحكم الأخلاقي أكثر تصلباً وتشدداً، وكذا الموقف والسلوك الاجتماعي، بالأخص تجاه قضايا: الحرية، المساواة، الجنس، الهجرة، إلخ. بكل متناقضاته الذاتية، كما أنه ليس هو، «عبودية طوعية» كما أطلق عليها إيتيان دو لابوسيه. فما هو هنا إلا غوص في قلق، وكما قال لاكان: «القلق لا يخلو من موضوع»، موضوع أولي سابق، بالتحديد، صدمة سابقة؛ فتأتي الصدمة الجديدة لتعيد إلى السطح، ما كان قد كُبت من الصدمة اللاواعية الأولى، والقلق الأول «عودة المكبوت» كما سماها فرويد؛ فتأخذ الصدمة الجديدة قوتها اللاواعية من ذلك اللامرئي، المجهول الذي يهدد الأنا.
مع استمرار الحضارة في إجبار الإنسان على التفكير في شكل مختلف، وبداية طرق جديدة للعيش مع هذه الملامح الحياتية المتغيرة؛ ليأخذ وجدانه المتألم، المؤلم، هذه الغرابة المقلقة، ويولد عنها دفاعات، ودفاعات لتفادي الكارثة، بفعل أي شيء لتلافي ما يمكن تلافيه.
كما خلال مدة الحجر العودة إلى الحالة الجنينية، مثل الصدمة الأولى صدمة الميلاد الانفصال عن الأم، لتتالى بعدها الصدمات… الصدمة التي تولد القلق الأولي تتخذ صورتين تستمران مع الفرد طوال حياته: خوف الحياة وخوف الموت. يقول فرويد: «إذا أردنا احتمال الحياة فلنكن مستعدين للموت». خوف الفرد من التقدم في حياته وما يصاحبه من انفصالات عن علاقاته وكينونته، وكذلك القلق من ضياعه في الجموع، وفقد استقلاليته… «قلق كينونة». فما يُرى الآن من فوضى، توتر، ألم، تهديد بالأمن ما هو إلا هدوء زائف… ذلك لأن الأنا مصابة هي الأخرى، بسبب ما حصل من فقد وخسارة، لذا غير مستبعد توقع شيء من العدوانية لدى البعض.
أمام الأوبئة، ما الإنسان إلا في حالة نكوص في قابلية تكيفه. آناه في الخارج في حالة خوف من دمارها، فكأنه بُطح أرضاً بفعل دمار، أمام محنة المرض أو الموت، مذعوراً فائق الحد، لآمال وسعادة وفخر دفنت في قبر.
تجاه الموت، هو كإنسان ما قبل التاريخ في موقفه اللاشعوري، غرائزه غير مستعدة للاعتقاد بالموت، وهذا هو بالطبع سر البطولة. فالحياة الشخصية ثمينة بقدر لا يضاهى. يقول لودفيغ أنزنغروبر: «إن شيئاً لا يمكن أن يصيبني أنا»، وأيضاً حسب فرويد: «كل إيذاء لأنانا المعظم والأوتوقراطي هي في أعماقها جريمة ضد الذات الملكية… إن لاشعورنا غير قابل لفكرة موتنا، بقدر ما هو إجرامي تجاه الغريب».
ولكن ما إن تكون الأنا معدية فهذه مشكلة أخرى. اضطراب في تقدير الذات، وكذلك الآخرين. إنه من غير الممكن تخطي تلك العتبة، عتبة الحجر والخروج إلى الحياة، قبل الحداد على ما تم فقده، والاعتراف بتغير الحياة التي حتماً ما عادت كما كانت عليه. ليكون الفراغ، والمسافة التي تحول بين الفرد والشيء (شيئه). إدراك هشاشة العالم الذي يحيط به، وسقوط نظام كان يؤمن به، سقوط قناع الوهم… فبدون رؤية النقص فيه، أو الشيء الناقص، والاعتراف به والحزن عليه؛ لن يصل إلى الحداد الذي بدروه يكون تحرره.
واليوم مع استمرار الحضارة في إجبار الإنسان على التفكير في شكل مختلف، وبداية طرق جديدة للعيش مع هذه الملامح الحياتية المتغيرة؛ ليأخذ وجدانه المتألم، المؤلم، هذه الغرابة المقلقة، ويولد عنها دفاعات، ودفاعات لتفادي الكارثة، بفعل أي شيء لتلافي ما يمكن تلافيه. لكن البشر لم يدركوا بعد الجزء اللاواعي من الوعي، وهو المسألة الصعبة. المسار الأول في فهم النفس، هو في مواجهة ذلك الخوف القابع في أعماقها، وعدم قبول، بل حتى رفض ما لا يُفهم ألا وهو الغرابة، وهذه هي المسألة الأصعب على الإطلاق. حتى اللحظة لا تعرف تماماً من تكون، ولكنك تعرف بالتأكيد ما لا تكونه.
لكي تعرف نفسك أنت بحاجة إلى الآخر.
نقلا عن القدس العربي