دونالد وأنا سنبدأ إنشاء جيش المستقبل، مستفيدين كثيراً من الثورة التكنولوجية، عبر إعادة تحديد الوسائل والأساليب التي تخاض بها حروب القرن 21. .. تلك كانت كلمات جورج دبليو بوش، في حفل تنصيب دونالد رامسفيلد وزيراً للدفاع للمرة الثانية، في البيت الأبيض، يوم 26 يناير/كانون ثاني 2001، وكان الهدف استكمال ما بدأ من تحول جوهري في المنظومة العسكرية الأميركية ومن نقلة تكنولوجية نوعية هائلة في نظم التسليح ووسائل القتال، بهدف الوصول إلى منظومة عسكرية متفردة فائقة القدرة في إطار ما سُميّ “الثورة في الشؤون العسكرية”، ترتكز على الجو، والفضاء، والمقذوفات دقيقة التوجيه، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتطبيقات النانو تكنولوجي والليزر، وتشكيل وحدات خاصة محدودة الحجم، عالية الكفاءة متعددة المهام، بحراً وجواً وبراً، وبدت الأمور، وكأن الولايات المتحدة الأميركية قد اقتربت من تحقيق سيادتها على العالم، بفضل سيادتها على الفضاء، وتفوقها العسكري النوعي المطلق، وهو ما بشر به الرئيس رونالد ريغان في عام 1983.
وكانت دراسة مهمة أعدها وزير الدفاع الأميركي، وليم بيري، في رئاسة بيل كلينتون الأولى، وصدرت في عام 1998 بعنوان “الدفاع الوقائي استراتيجية جديدة للأمن الأميركي”، وتمت فيها إعادة تقييم للمخاطر التي يمكن أن تتعرض لها الولايات المتحدة في القرن 21، وتم تحديدها في ثلاثة قوائم: مخاطر تستهدف الكيان والوجود الأميركي ذاته، وهي تهديدات غامضة وغير ملموسة، لكنها قائمة. مخاطر تتعرض لها المصالح الأميركية بشكل مباشر، وتؤثر على طريقة وشكل الحياة الأميركية، وتتركز في منطقة الخليج والشرق الأوسط. مخاطر تستهدف أمن أميركا بشكل غير مباشر، لكنها لا تهدد الكيان الأميركي بشكل مباشر، وهي مشكلات إقليمية حول العالم (مثل فلسطين/ كشمير ..).
وركز بيري على تهديدات القائمتين، الأولى والثانية، وعلى وضع استراتيجيات مسبقة للتعامل معها، قبل أن تتحول إلى مخاطر تهدد كيان الولايات المتحدة، وبالتالي، لابد من ردعها بالتهديد باستخدام القوة، وفي حالة فشل الردع، لابد أن تكون الآلة العسكرية الأميركية قادرة على إنزال هزيمة سريعة وحاسمة بها. وقد أعد بيري تلك الدراسة الخاصة بالدفاع الوقائي، بالتعاون مع مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي في ذلك الوقت، آشتون كارتر، والذي اختاره الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أخيراً وزيراً للدفاع.
ونعود إلى 2001، والتخطيط لحروب القرن 21، والبنتاغون، تحت إدارة رامسفيلد وطاقم معاونيه من رموز المحافظين الجدد، وجنرالات البنتاغون وخبرائه، وقد تحول إلى خلية نحل لضبط المنظومة العسكرية، وإجراء مئات “المباريات العسكرية” لاختبار القدرات العسكرية المتنوعة في مواجهة “العدو” الافتراضي، وكانت النتائج التي تقدمها أجهزة الحاسوب المتطورة تأتي في صالح القوات الأميركية، عندما يكون العدو المفترض جيوشاً تقليدية وقوات مسلحة نظامية، تنتمي لدول. ولكن، كان الأمر يختلف تماماً عندما يكون العدو المفترض تنظيمات شبه عسكرية، وغير نظامية، تنتمي للفاعلين من غير الدول؟ ومجموعات الدراسة والبحث تعمل جاهدة على اكتشاف نقاط الضعف، ووضع التوصيات لملافاتها، هذا بالنسبة للآلة العسكرية الأميركية، وهي، بكل مقوماتها، معروفة تماماً لدى القيادة الأميركية. أما الجانب الآخر، وهو العدو المفترض غير الملموس، فيبقى في دائرة التقديرات والاحتمالات. وجاء “11 سبتمبر” بأحداثه الدامية، ليضع كل النظريات محلاً للاختبار العملي، عندما أعلن بوش الابن “الحرب على الإرهاب”، وبدأ في استخدام الآلة العسكرية المتطورة التي أنتجتها الثورة في الشؤون العسكرية، في أول حروب الق
رن 21. أولاً، في غزو أفغانستان التي كانت تحت سلطة حركة طالبان، وتوفر ملاذاً آمناً لتنظيم القاعدة، وتم الغزو واحتلال الدولة، في حرب أقرب ما تكون إلى الحروب المتناسقة برياً بين قوات تحالف الشمال المدعومة من أميركا وقوات “طالبان”، مع استخدام المنظومة الجوية والصاروخية والمعلوماتية وعناصر القوات الخاصة الأميركية، وعلى النسق نفسه. وبعد نحو عام ونصف، تم غزو العراق في 2003 في حرب كان عنوانها “الصدمة والرعب”، تم خلالها، وهي ثاني حروب القرن 21، هزيمة الجيش العراقي النظامي وتدميره، وإسقاط الدولة العراقية واحتلالها في 20 يوماً. وفي الحربين/ الغزوتين، انبهر العالم بعروض عسكرية مذهلة، في الجو والبحر والبر، وظهر رامسفيلد مزهواً بنظرياته، وأعلن بوش الابن، من على حاملة طائرات، انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية بعد الانتصار!؟
لو كانت الأمور انتهت عند هذا الحد لكانت تحققت كلمات بوش الابن في حفل تنصيب رامسفيلد وزيراً للدفاع، حول الجيش الجديد وحروب القرن 21، ولكن، ولأنه لا مجال لاستخدام لو في الحرب، سارت الأمور في نسق مختلف تماماً. تحولت الحرب، في كل من أفغانستان والعراق، إلى حرب مفتوحة، بعد فقد الآلة العسكرية فائقة التطور قدرتها على الحسم، وأخذت الحرب في البلدين الشكل الذي لم يكن يتمناه رامسفيلد “الحرب اللاتناسقية”، وتمكنت الجماعات والتنظيمات والحركات المسلحة شبه العسكرية، ذات الصبغة الإسلامية المتطرفة في غالبيتها، من استدراج القوات الأميركية وحلفائها، واهتزت نظريات رامسفيلد بشدة أمام الخسائر الفادحة، البشرية والمادية. ولم يجد مفراً من الاستقالة في عام 2006، ودخل البنتاغون في عملية مراجعة شاملة، كان من أهم نتائجها تقرير سحب القوات البرية من العراق وأفغانستان، وقصر الأمر على الخبراء والمستشارين والمدربين، والتركيز على الدعم الجوي والمعلوماتي للحلفاء المحليين، وهو ما يجري حالياً بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية، ولا زالت عمليات المراجعة مستمرة.
“حولت الحرب، في كل من أفغانستان والعراق، إلى حرب مفتوحة، بعد فقد الآلة العسكرية فائقة التطور قدرتها على الحسم”
تلك كانت أولى حروب القرن 21 التي خاضتها أميركا، والنتيجة لا نصر ولا هزيمة. ولكن حالة من الفوضى والاضطراب سادت المناطق التي اشتعلت فيها الحروب، وصعود الجماعات الجهادية والمتطرفة والإرهابية إلى صدارة المشهد، ومع بوادر ظهور قصور الآلة العسكرية الأميركية في مواجهتها. وحيث لم يكن مقبولاً أن تهتز المكانة العسكرية الأميركية، تصدت أجهزة المخابرات الأميركية للأمر مبكراً، بترويج فكرة مبتكرة، هي أن العالم مقبل على “حروب الجيل الرابع”، وهي التي تشنها جماعات/ وتنظيمات/ وحركات/ وفاعلون من غير الدول، بهدف إحداث الفوضى داخل الدولة المستهدفة، وتم ترويج هذه النظرية على نطاق واسع، للتغطية على الفشل الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، وتم تصديرها إلى الشرق الأوسط.
ولكن، تصدت لنقد هذه النظرية التي تبدو براقة مجموعة كبيرة من العسكريين الأميركيين المحترفين، رفضاً لتبرير القصور العسكري في عدم تطوير آليات مناسبة، لمواجهة العمليات الإرهابية، ومن أبرز الدراسات، في هذا الصدد، “حروب الجيل الرابع وأساطير أخرى”، كتبه الباحث الاستراتيجي أنطوليو إيشافاريا عام 2005. وهذا لا ينتقص بحال من إنجازات “الثورة في الشؤون العسكرية”، والتي حققت لأميركا تفوقاً نوعياً ملموساً على مستوى الجيوش الاحترافية، وهو ما قلل من احتمالات نشوب الحروب الكبرى. وتبقى إشكالية الحرب على الإرهاب الذي لم ولن تهزمه إبداعات حروب القرن 21. ولكن، حتماً سينهزم أمام إعلاء قيم الحق والعدل والحرية.
عادل سليمان- العربي الجديد