صباح يوم 4 تموز/ يوليو الجاري استيقظ الأتراك والسوريون على خبر انتشار “هاشتاغ” دعت بعض الأطراف من خلاله إلى “ترحيل السوريين إلى بلدهم” كردّ فعل على تصرّف طائش وغير مسؤول قام به شابّان سوريان على شاطئ مدينة “سامسون” التركية الوادعة، الواقعة على ساحل البحر الأسود.
وبعيداً عن تفاصيل أو حيثيات ذلك التصرّف، أو ميول الشابّين اللذان لا يمثلان الشعب السوري، أو توجّه وانتماء الأطراف التركية التي شجّعت وأشرفت على انتشار الهاشتاغ، انتفض السوريون من أقصى تركيا إلى أقصاها مستنكرين ذلك الفعل ومتبرئين من مرتكبيه، فعجّت صفحات التواصل الاجتماعي بمنشورات و”هاشتاغات” التنديد ومحاسبة المسيئين من جهة، والاعتذار من الشعب التركي وتقديم الشكر له على ما قدّمه للسوريين خلال ست سنوات الضيافة من جهة أخرى، وبادر العديد من المواطنين السوريين في عدة مدن تركية إلى تنظيم وقفات تضامنية مع الشعب التركي ضمن فعاليات أطلقوا عليها “السوريون والأتراك إخوة” كما قام البعض بتوزيع الزهور والبطاقات التي تحمل تلك العبارة لا سيما في المدن الجنوبية.
ولم تقتصر تلك الوقفات والمبادرات على السوريين، بل سبقهم الأتراك بالرد على حملة “الترحيل” بإطلاق هاشتاغ “السوريون إخوتنا” وشارك العديد من الشخصيات الثقافية والسياسية والاجتماعية بكتابة منشورات ردّوا من خلالها على حملة الهاشتاغ “العنصري” حسب وصفهم. وبادرت الداخلية التركية بتوقيف أكثر من 15 مشتبه كان لهم ضلعاً في نشر وإثارة تلك البلبلة.
إذن، خلال أقل من يومين فشل “مثيرو الفتنة” في تنفيذ مخطّطهم الذي جاء متزامناً مع حملة “عدالَت” التي أطلقها حزب “الشعب الجمهوري” المعارض وحمل لواءها زعيم الحزب “كليجدار أوغلو” سيراً على الأقدام متّجهاً إلى إسطنبول، ووحده الله كان يعلم ما تخبّئه النفوس السوداء عند نقطة الوصول! كما تزامن أيضاً مع إطلاق الحكومة التركية عملية “سيف الفرات” لتطهير منطقتي عفرين ومنبج من عناصر حزب الاتحاد الديموقراطي الذراع السوري لتنظيم “بي كا كا” الإرهابي، ما يرجّح، أو يؤكّد، فرضية مشاركة العديد من الأطراف الخارجية في مؤامرة الفتنة والتحضير المسبق لها.
وما إن بدأ الطرفان، الضيف والمضيف، بجني ثمار تلاحمهما الذي أفشل الخطة، حتى تبيّن بأن رواسبها قد توغّلت بأعماق اثنين من ضعاف النفوس، ليرتكبا جريمتهما البشعة في “صقاريا” بحق الأم السورية الحامل وابنها ذو الشهور العشرة. جريمة يندى لها جبين البشرية، جريمة أكاد أجزم بأنها أخجلت وأبكت مثيرو الفُرقة قبل أن تصدم وتسيل دموع جميع الأعراق المتواجدة على الأراضي التركية مع السوريين، جريمة قدّر الله عز وجلّ لها أن تتجلّى قرباناً يلمّ أوجاعنا وقهرنا ليرميها نحو من أراد بنا السوء والاندثار.
نعم، تتفطّر قلوبنا كلما نظرنا نحو أطفالنا وأزواجنا وأمهاتنا، ونشعر بالانكسار كلما تخيّلنا ذلك المشهد الجلّل بين أشجار الغابة التي كانت، وخلال ست سنوات، تظلّ عائلاتنا التركية والسورية.. وفجأة، شيء ما، يقتلعنا من عجزنا وحزننا ليضعنا أمام حقيقة المشهد الإنساني بجميع جوارحه: ألوف من الأتراك يهجمون على أقارب مرتكبي الجريمة، رغم استنكارهم فعلة أقاربهم! حشود أهالي المدينة تزلزل أسوار مركز الشرطة مطالبة برجم وإعدام المجرمَين! رجال وشيوخ ونساء وأطفال مفجوعون ينتشرون في شوارع المدن التركية ودموعهم لا تكفّ عن الهطول، آلاف من المصلّين والمشيّعين يتقدّمهم رئيس الشؤون الدينية ورجالات الدولة التركية ينوبون عن رئيسها الذي منعه من الحضور سفره خارج البلاد قبيل الفاجعة، خطاب “محمّد غورميز” الذي أجهش بالبكاء وهو يقول “وجداننا هو الذي أضحى لاجئاً”، الإعلاميون على شاشات التلفزة وهم يغصّون بالدموع المستقرّة في أعناقهم، النساء وهنّ يحملن لافتات “أختنا” ومناديلهن المخضّبة بالدموع والنشيج، كلمة عزاء “أحمد داود أوغلو”، الذي طالما احبّه السوريون منذ أيام الثورة الأولى، حين قال “أعزّي جميع السوريين وأهل الفقيدة والأمة جمعاء، وسيخجل التاريخ منّا إذا لم نقف مع إخوتنا السوريين”، وأهل الجاني وزوجته وطفله الذين تبرؤوا منه وطلبوا من الحكومة تغيير اسم العائلة الذي يحمله الجاني. وأخيراً، السوريون الذين يقفون الآن في أكثر من مدينة للمشاركة والتضامن مع إخوتهم الأتراك في حزنهم ومشاعرهم الصادقة.
يبدو أن جسديّ “أماني” وطفلها الشهيدان المسجّان الآن في إدلب المحرّرة قد كُتب لهما أن يسطّرا صفحة جديدة في تاريخ الإنسانية عامة، والأخوّة السورية التركية على وجه الخصوص، من الصعوبة بمكان أن يمحوها بعض شراذمة التاريخ وشذّاذ الإنسانية كالذين شهدناهم في بلاد “النشامى” وشعوب “سوا ربينا”!
ترك برس