” رح اشتقلكن كتير، ماما، بابا، أختي، لا تخافوا بسوريا، كم شهر وبعمللكن لم شمل بس وصل ع ألمانيا وبتجوا لعندي.. مو هيك قلتيلي ماما؟” بكلماته البريئة ودّع “جمال” ذو عشرة الأعوام أسرته التي قررت إرساله إلى ألمانيا مع أحد أقربائهم، علّه يستطيع لم شمل العائلة في أقرب وقت.
حاول جمال إخفاء خوفه بحضور عائلته ليظهر أمامهم على أنه شاب وأن مفتاح نجاتهم بيده، إلا أنه لم يكن يعلم أن ما سيواجهه أعظم من أن تتحملها طفولته، فصور الدمار والقصف التي تعرضت لها مدينته جسر الشغور بريف ادلب الغربي ما زالت راسخة في مخيلته، فقد نزح أكثر من نصف سكانها عقب تحريرها العام الماضي من قوات النظام، ولم يكن بحوزة والده إلا مبلغ بسيط يغطي نفقات لجوء شخص واحد.
كانت أولى لحظات خيبته عندما كان على متن البلم، فجميع الأطفال الذين كانوا برفقته تمسكوا بأهلهم ليشعروا بالأمان، أما جمال فتمنى أن تكون أمه أو أبوه معه لاحتضانه، فكانت دموعه رفيقه الدائم طيلة رحلته إلى أن وصل إلى ألمانيا نهاية شهر أيلول من العام الماضي، لتبدأ بذلك رحلة معاناته التي لم تكن بالحسبان.
” ما حبيتا لألمانيا يا ماما، وأكلن مو طيب، والولاد الي معي بالملجأ بضلوا عم يبكوا بدن أهلن، وأنا كل يوم بسألن أيمت بدن يجو أهلي.. والله شتقتلكن كتير”، فوفقا لإحصائية الاتحاد الألماني للاجئين القاصرين دون ذويهم فقد بلغ عددهم أكثر من 60 ألف شخص تحت سن الثامنة عشر، ومعظمهم يعانون من أمراض نفسية ومن الانطواء والتوحد وغيرها.
الأطفال في سوريا أكبر شرائح المجتمع التي تعرضت لضغوطات نفسية وتأثرت بمجريات الحرب، ليزيد اللجوء من آلامهم ويفاقم من معاناتهم، وبالأخص أولئك الذين يهاجرون دون ذويهم، ورغم الجهود التي تبذلها الحكومات الأوروبية من خلال برامجها التعليمية والترفيهية وحتى المعالجة النفسية لمساعدتهم على الاندماج والانخراط في مجتمعهم الجديد، إلا أن معظم الأطفال ازداد وضعهم سوءا، وخصوصا أنهم يفتقدون لجو الأسرة الحميمي الذي يصعب تأمينه.
تقول والدته وهي تمسك هاتفها وتنظر لصورته بحرقة ودموعها تفيض من عينيها:” ياريتني مارضيت أبعتو، بيحكي معي كل يوم وبيبكي، شو أعمل ما بيطلع بأيدي شي ولامعنا مصاري نروح لعندو، ياريت ما كان في حرب، يا ريت ما كان في لجوء”.
حال أم جمال كحال العديد من الأمهات اللواتي فكرن بأنفسهن قبل أن يفكرن بما سيعانيه أطفالهن عندما سيُجمّعون في ملجأ وتفرض عليهم قيودا جديدة تقتل طموحاتهم، إلا أن قرار وزير العدل والداخلية الألماني حطم توقعاتهم وآمالهم، الذي علق لم شمل الأطفال اللاجئين لعائلاتهم لمدة عامين، بعد أن كان لهم الأولوية بلم الشمل فمعظم العائلات كانت ترسل أطفالها ليكون وسيلة لجوئهم هم إلى بلاد المهجر فالطفل يصبح بيد والديه وسيلة ليس أكثر، غير آبهين بالمشاكل التي كثيرا ما تعترض هذا الطفل، فقد أعلن جهاز الشرطة في الاتحاد الأوروبي مطلع العام الحالي اختفاء10 آلاف طفل لاجئ دخلوا أوروبا دون ذويهم، ما يزيد من احتمال وقوعهم بأيدي عصابات الإتجار بالبشر.
” بدي أرجع عسوريا، ونام جنبك ماما، ما عاد بدي أبقى هون، بدي ألعب مع أختي ورفقاتي، وأرجع لمدرستي”.. لم يتقبل جمال حتى اللحظة طريقة المعيشة والبيئة الجديدة التي فرضت عليه، فكل صباح يستيقظ ويدعو ربه أن يجتمع بعائلته في أقرب وقت، عله يستعيد جزءاً من طفولته التي ضاعت بين ركام الحرب ومجازفة عائلته به لتأمين مستقبل أفضل في أوروبا، ليصمت وتتحدث عيناه بدلا منه ” ما ذنبي أنا في لعبة الكبار؟”.
سماح خالد ـ المركز الصحفي السوري