مها ذات الأربعة أعوام لم تستطع النوم في تلك الليلة، بقيت أمها طوال الليل وهي ترقب تكوّرها وانفرادها تحت لحافها الدافئ.. ومن أين يأتي النوم لعينيها وغدا ستذهب الى كفرنبل وستمر بالسوق الرئيسي وتشتري شعبيات من عند محل الشعيبيات الشعبي الشهير “حمدو” ثم أنها تحب كثير الشاورما من عند ” فروج يوسف” والأهم بأنها سوف تزور محل ياسمين الشام والذي كانت اشترت منه أساور جميلة ليلة عيد الأضحى الماضي وهذه المرة هي تحلم بطلاء أظافر أحمر جميل لها وشقيقتها الأكبر “سهى” وما المانع فمحل ياسمين الشام مجاور لعيادة طبيب العصبية الوحيد المتبقي في منطقتنا والذي ستزوره مع الدها منذ الصباح لمعالجة قصر بات يظهر في ساعدها الأيمن الصغير الذي كان قد تعرض لشظية عمياء ناتجة عن برميل أعمى ألقته طائرات الأسد على بلدة كفرعويد مسقط رأسها وكانت لم تزل في المهد (3 أشهر).
ومر الليل رغم ثقله على مها ومنذ أذان الفجر فتحت عينيها وهرعت إلى فراش أبويها.. بابا ماما فيقوا قوموا تأخرنا يا لله يا بابا! نهض الأب وهو يضحك مرحّبا بمها ومداعبا بأصابعه أطراف شعرها يا لله قومي يا ماما لبسي مها لنروح ع كفرنبل وارتدت مها ملابسها على عجل.. ووضعت ملقط شعرها الأنيق الذي تضعه فقط في المناسبات على شعرها.. صعدت ظهر الدراجة النارية وراء أبيها ولوّحت بيدها الناعمة القاصرة لأمها ولأختها مودعة، وكان والسرور يملأ كيانها.
بعد 17عشر دقيقة كانت مها ووالدها في شارع كفرنبل أمام العيادة :
– لوين يا بابا (سألت مها)؟!
– ع الدكتور يا بابا
– بس أنا ..
– (قاطعها) أول شيء منشوف الدكتور وبعدين وين بتريدي باخدك..
– حاضربابا
دخلت مها العيادة وجلست على كرسي الانتظار وأطرقت في الأرض
– سألت الممرضة: شو اسم البنت.
– رد الوالد: مها وعمرها أربع سنوات.
– دوركن السابع ردت الممرضة.
وبعد انتظار نصف ساعة شعر الأب بالتبرم بدأ يدخل قلب مها ومازال قبلها ثلاثة مراجعين..
– سألها الأب: شبك يا مها.
– سارعت بالجواب: جوعانة.
– خسى الجوع.. شو بتاكلي..
– امممم.. فطيرة جبنة من عند الشيف، قريب ما بعذبك..
– رد الوالد إيه مو تكرم عيونك..
وأخذ مها من يدها ونزلت عن الكرسي ومضيا معا وما أن خرجا من باب العيادة حتى حدث أمر جلل لم يكن لأحد أن يدرك ما لقصة.. صوت شديد.. هواء ملتهب غبار كثيف أسود.. مها.. أين مها نادى الأب..
ماذا حدث.. صاروخان فراغيان من طائرة غدر روسية نزلا في منتصف سوق البسطات والمحال التجارية.. البشر.. بل كل شيء اختلط ببعضه! فأين سنجد مها الصغيرة ونهض الرجل وبدأ يلهث وسط الدخان الكثيف باحثا عن أي شيء يخص ابنته لربما فردة حذائها دون جدوى كانت أصوات تأوهات الجرحى تملآ المكان كيف لا والمجزرة خلفت 25شهيدا بطرفة عين! طلب الرجل المساعدة من أصحاب القبعات البيضاء والذين رأوا ما لم يكن يشعر به والد مها فدماؤه كانت تسيل من أعلى كتيفه المملوءين بالحروق والشظايا.
– يا حاج دعنا نسعفك أنت متصاوب.
– بدي مها.. مها جوعانة.
وبعد جهد ظهرت مها.. قذفها هواء الصاروخ بعيدا وسال الدم من أطرافها الأربعة حتى إن أطراف أصابعها صبغت بلون طلاء الأظافر نفسه ذلك الذي كانت تحلم بشرائه قبل دقائق.
ركض الأب إليها لكنه لم يستطع الانحناء فجراحه أثخنته.. وعندها جيء ببطانية ولفت مها أمام عينه وحملت لتوضع بين الأموات.. وقع الأب مغميا عليه ونقل على الفور الى مشافي معرة النعمان لأن الطائرة نفسها كانت قد أكملت حقدها على المشفى الذي يفترض أن يستقبل الجرحى..
ماتت مها لكن أحلامها الصغيرة تطوف حولنا.. تطالبنا نحن الناجين بما ينبغي فعله.. كي لا نرى مأساة مها أخرى.