قيل إن عملية الغربلة قد تؤدي إلى ضبط المسار، خصوصاً بوجود ثلاثة جنرالات موثوق بهم في مواقع مفصلية مؤثرة تم تكليفهم بضبط المواقف والتوجهات، خصوصاً الخارجية منها التي لازمتها التناقضات بين الرئيس وبقية فريق الأمن القومي. لكن التوقعات فشلت. فالتناقضات تتفاقم، وظهرت في الأيام الماضية بشكل أكثر وضوحاً.
في جلسة مع لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، قال وزير الدفاع جيمس ماتيس: “نعم إن الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران يخدم مصلحة أميركا الأمنية“. شهادة متضاربة كلياً مع موقف ترامب الذي لمّح أخيراً إلى أنه ينوي عدم الموافقة في 155 من شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي، على إفادة الوكالة الدولية بأن إيران تفي بالتزاماتها في تطبيقها للاتفاق.
ولم يكن الملف النووي الإيراني القضية الوحيدة التي ظهر فيها هذا التناقض، إذ تكرر الأمر نفسه بالنسبة لكوريا الشمالية. خلال وجوده في بكين قبل ثلاثة أيام، كشف تيلرسون عن فتح خطوط تواصل مع بيونغ يانغ وأنه ينوي الحفاظ عليها ومواصلة العمل من خلالها. قبل أن يغادر الوزير العاصمة الصينية، قطع الرئيس ترامب الطريق عليه بتغريدة عكست الخلاف مع تيلرسون الذي “يضيع وقته في محاولة لفتح حوار مع رجل الصواريخ“.في موازاة ذلك، جدّدت المتحدثة الرسمية في وزارة الخارجية هيذر نويرت التأكيد على المقياس الذي تعتمده الإدارة في الموافقة والذي لا ينحصر بالاتفاق بل “بممارسات طهران الكلية” بما في ذلك دورها في المنطقة. لكن كلامها لا يتفق مع موقف وزير الخارجية نفسه ريكس تيلرسون المتفق مع ماتيس في هذا الملف. الخلاصة أن الموقف إزاء النووي الإيراني ضائع حتى الآن. وحده التضارب وفي أحسن الأحوال الالتباس، واضح.
وزاد من الالتباس، أن المتحدثة باسم الخارجية الأميركية بدت في لقاء صحافي معها وكأنها على تباين مع الوزير الذي تتحدث باسمه، حين قالت إن “من يقوم بتجارب صاروخية لا ينبغي أن يكافأ بالحوار معه”. إلا إذا كان الوزير قد تراجع كي لا يظهر على تناقض مع الرئيس الذي لم يعد سراً في واشنطن بأن علاقاته تزداد فتوراً مع تيلرسون.
كذلك برزت نسخة من هذا الالتباس في موقف الإدارة من التطورات في سورية. مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي الجنرال هربرت ماكمستر، أكد في محاضرة له الأسبوع الماضي أن لدى الإدارة “استراتيجية قيد التنفيذ لحرمان إيران وحزب الله من تحقيق مكاسب استراتيجية في سورية”. لكنه رفض الكشف عن جوانبها ” لأنني لا أقوى على البوح” بشأنها. اللافت أن هذه السيرة غائبة عن مداولات وزارة الخارجية المفترض أن تتولى الإشراف على مثل هذه السياسة المتعلقة بصلب مهامها والإعلان عنها. وبذلك يبدو أن الملف السوري صار مثل نظيره الفلسطيني خارج نطاق دور تيلرسون السائر نحو مزيد من الانحسار.
توالي هذه النماذج من “ضياع القرار” أثار المزيد من القلق لدى الأوساط المعنية بشؤون السياسة الخارجية في واشنطن. منها من يراهن على ماتيس كصمام أمان لضبط القرار الخارجي بالنهاية ضمن حدوده وتوجهاته التقليدية المتوارثة. ومنها من يستغرب عدم انتفاض وزير الخارجية ” الصبور” وتقديم استقالته بعد “قصقصة جناحيه”. تذهب بعض التفسيرات إلى أن الوزير بات يدرك أن الاستقالة لا تحل المشكلة وتؤدي إلى تغيير الحال لجهة استعادة الخارجية لدورها الدبلوماسي الدولي. فهذا احتمال غير وارد في زمن رئيس “لا يريد دبلوماسية” أصلاً. وينطبق ذلك على التعامل مع كافة الأزمات الدولية القائمة.
العربي الجديد