على ناصية الشارع، رجل يمسك بكائن يشبه الجرذ، يضغط بإصبعين على بطنه فيلتقط واحدة من مجموعة الأوراق المطويّة في علبة مفتوحة، زاعماً أنّ ما كُتب على الورقة هو المستقبل.
أسفل البناء، قبو جُهّز بسرعة، ثمّ افتُتح كصالة عرض خاصّة للفنّ التشكيليّ. يدخل تاجر إلى الصالة، يشتري لوحة ما من المعرض، اللوحة والفنّان لا يمتّان إلى الفنّ بصلة، لكنّ سعر اللوحة هو المفاجأة، فالرقم يوازي أسعار لوحات كبار الفنّانين السوريّين المشهورين.
تتكرّر العمليّة مرّة أخرى في اليوم، وكلّ يوم تقريباً، بدءاً من حفل الافتتاح – الذي كان مميّزاً بحضور مسؤولين من الأجهزة المختلفة – وحتّى الختام، حين رُميت اللوحات على أرض المستودع، واللافت أنّ بعض المشترين لم يستلموا ما اشتروه!.
عندما تسأل عمّا يدور في هذه الصالة، ستعرف بسهولة أنّ صاحب الصالة موظّف في الجمارك، وقد آن له أن يُبيّض الأموال التي جدّ وكدّ في سبيل تحصيلها، وأن يرتاح في الفيلّا التي شيّدها بساعديه، واشترى أرضها من عرق جبينه.
أمّا من يشترون اللوحات، فهم تجّار أو أصحاب مصالح مختلفة، شاركوا في إبداع فكرة شراء لوحات (فنّيّة) لتسيير أمورهم في دوائر الحكومة.
وستعرف أنّ (الرسّام) النكرة، هو من يقوم بدور ملقاط للمال، يستلم ثمن اللوحة، بعد أن يأخذ صاحب الصالة نسبته، ويُسلّم (الرسّام) المال بدوره إلى شقيقه، وهو مسؤول في مستوى يملك صلاحيّة منح استثناءات ورخص، أو منعها. هكذا تتمّ عمليّة الرشوة، فالتاجر لم يرشِ، بل اشترى لوحة! والمرتشي لم يقبض شيئاً من أحد أمام أحد، بل تناول من أخيه (رسّام) الغفلة، مبلغاً من المال، هي أمور عائليّة، بين أخ وأخيه، بعد معرض للرسم!
صالة العرض هذه استقبلت فنّانين تشكيليّين حقيقيّين، أحياناً للتمويه، لكنّها مارست المستوى ذاته من التعامل مع الأمر، فقد استقبلت التشكيليّ «أسعد عرابي»، وبثّ صاحب الصالة بكثافة (تسريباً) أنّ «عرابي» مصاب بسرطان الدم، وسيموت خلال أسابيع، متصيّداً زبائن ممن يفكّرون على طريقة: أنّ اللوحات تزداد أسعارها بعد وفاة الفنّان!.
وعلى النهج نفسه، استقبل واقتنى معظم لوحات الفنّان «شريف محرّم» واستغلّ مرضه وحاجته، للاستيلاء على لوحاته الأخيرة.
لكنّ الأغرب في حوادث هذه الصالة، هو استضافتها لعلي أحمد سعيد إسبر!.
نعم، استقدمت «أدونيس» فكان أحد عارضيها، وقد كان ملصق الاستضافة كلمات بخطّه، وفي الافتتاح، كان يتنقّل بين الحضور، ويسمح لهم بالتقاط الصور معه.
طوّق عنق نفسه بشالٍ أحمر، وترافق مع الجمركيّ صاحب الصالة (الفنّيّة) في المطاعم والفنادق الحلبيّة الفاخرة، ممتدحاً الأشياء على طريقته المعروفة في مديح الإمارات وإيران.
روّج الفنّان الشامل»أدونيس» لهذه الظاهرة كراقصة تلعب على الحبال، وعلى كلّ شيء.
شاع اسم الصالة، فقد صارت مرتعاً للصاعدين على دروب الفساد والإفساد تحت عناوين الفنّ والثقافة في سورية. هناك تلتقي أنواع الأجهزة بالفنّانين، ويتّصل طالبو الاستثناءات بمانحيها، فتتمّ الصفقات؛ سماسرة القيم ومبيّضو الإجرام، من أمثال الجمركيّ وأدونيس والمحافظ، ورؤساء النقابات، عاهرات، قوّادون، وزبائن المال المنهوب من الشعب بشتّى الطرق.
ذاك القبو، جسّد صورة العلاقة بين الثقافة والنظام، وليس عبثاً أنّه تحت الأرض، وأنّ على سطحه تطفو قذارات يُطلق عليها اسم فنّانين تشكيليّين وحتّى نقّاد أو شعراء.
دور الثقافة العامّة، ليست أقلّ انحطاطاً، أو إساءة، ولن تستطيع أن تستثني منها، مركزاً ثقافيّاً، أو نادياً، أو مناسبة، فاحتفاليّة «حلب عاصمة للثقافة الإسلاميّة» وحدها تحتاج لكتاب خاصٍ كي نعدّد ما أُنجز فيها من فساد. فقبل بدء الاحتفاليّة، قال أحد الكتّاب المسؤولين، وهو عضو في مجلس (الشعب)، إنّ أيّ انتقاد للاحتفاليّة هو خيانة وطنيّة. ومنذ إعلان مسابقة اختيار شعار لها، بدأت السرقات، حين أخذت اللجنة الشعار المصمّم من أحد من تقدّموا، ووضعته باسم شخص آخر، وهذا الآخر كان عضواً في اللجنة نفسها التي انتقت وحكمت وأعطت ودافعت عن اللصوص، وعمّمت احترام الفساد في الشارع.
خارج القبو على ناصية الشارع، ترى مرّة أخرى صورة العلاقات الاجتماعيّة، المشوّهة/ الفاسدة/ الاحتياليّة، بين الأفراد؛ حيث يقف المخادع وقد أمسك بالحيوان شبيه الجرذ قارئ المستقبل، وهو هنا صاحب اللعبة – الصالة، ، وترى أمامه زبوناً يطلب نبوءة، ويعرف أنّه سيأخذ شيئاً ليس له، وأنّه بوعود وكلمات سيختطف حقّ غيره من الحياة، كما طالب الاستثناء، ويخدع نفسه: بأنّ هذا سيستمرّ إلى ما لا نهاية.
يبقى الجرذ في هذه اللعبة وعلاقته بالقبو؛ إنّه ذلك المثقّف، حين يدغدغه صاحب الصالة فيستخدم فمه في انتقاء الكلمات والأوراق خدمة للتبرير والتبييض، ولو كان ما يحدث أمام ناظريه هو قتل الشعب، إنّه «أدونيس» وأمثاله.
المصدر: جريدة زيتون