يبدو غريباً أن يتزايد الإقبال على تعلم اللغات الأجنبية في سورية، بالمقارنة مع السنوات التي سبقت الثورة، خصوصاً مع تراجع الوضع الاقتصادي للسوريين بمعظمهم وانشغالهم بهموم الحياة اليومية في ظل الحرب. لكن في الواقع، الظروف عينها هي التي تدفع آلاف الشبان والشابات اليوم إلى تعلم لغات أجنبية لزيادة فرصهم في الحصول على تأشيرة سفر إلى بلدان أوروبية أو حتى آسيوية.
في سورية، لا يختار الشباب اللغة الأجنبية بسبب ميلهم إليها، إنّما تبعاً لحظوظ كلّ واحد منهم في السفر. لذا نجد أنّ أعداد طلاب اللغة الألمانية في معظم المعاهد، باتت تساوي أو تفوق عدد طلاب دورات اللغة الإنكليزية التي كانت اللغة الأجنبية التي تشهد الإقبال الأكبر على مدى السنوات العشر الماضية.
طوق النجاة
محمد حجازي مدرّس لغة ألمانية في حلب، يقول إنّ طلابه يجدون في تعلم الألمانية “طوق نجاة من واقعهم ومن مستقبل غامض. كل بلدان العالم تغلق أبوابها في وجه السوريين، كذلك فإن القبول في جامعات العالم المختلفة لا يُمنح فقط للمتفوقين وأصحاب الشهادات، وإنّما لأشخاص يتقنون لغة البلد ويستطيعون المباشرة فوراً بالدراسة من دون قضاء سنة أو اثنتين في تعلم اللغة. مع ذلك، فإنّ تعلم اللغة لا يعني ضمان القبول أو التأشيرة. فرصة متقن للغة أجنبية في الحصول على تأشيرة هي 50 في المائة في أفضل الأحوال”.
عبد الحليم من طلاب حجازي، يقول إنّ “طلاب الجامعة باتوا يلتزمون بدوام معاهد اللغات، أكثر من الالتزام بدوام جامعاتهم. كثيرون هم زملائي الذين لم أعد ألتقي بهم في الجامعة، وإنّما هنا”. يضيف أنّ “شهادة دكتوراه لا تخرجك من هذا البلد، لكنّ شهادة لغة قد تفعل”. ويتابع: “بالنسبة إليّ، ليست لديّ خيارات أخرى. إن لم أخرج من سورية، فسوف أستدعى للخدمة العسكرية، وسوف أقضي أشهراً وربما سنوات وأنا متخفّ، وقد أجد نفسي وقد زجّ بي على خط جبهة أو في أحد السجون العسكرية”.
أما علي وهو طالب طب في السنة الخامسة في جامعة دمشق، فيقول إنّ “نحو 50 في المائة من طلاب كلية الطب باتوا يتعلمون اللغة الألمانية، لأنّ حظوظ الأطباء في الحصول على تأشيرة إلى ألمانيا أوفر من دول أخرى. هي تقدّم تسهيلات للأطباء، وكثيرون هم الأطباء المتخرجون حديثاً الذين يتخصصون اليوم في ألمانيا”. يضيف أنّ “لدراسة الطب وضع خاص في دول عدّة، إذ توضع شروط مشددة على الخرّيجين الأجانب، كتركيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية التي توقفت سفاراتها في لبنان والأردن عن منح تأشيرات للخريجين السوريين الراغبين في الحصول على البورد الأميركي”. ويتابع أنّه “على الرغم من الحياة الصعبة التي تحيط بنا وصعوبة المناهج الدراسية، إلا أنّني أخصّص ثلاث ساعات يومياً لدراسة الألمانية”.
معاهد تتزايد أعدادها
يعتمد طلاب اللغات السوريون على المعاهد الخاصة التي تزايدت أعدادها خلال السنوات الأخيرة، تماشياً مع زيادة الإقبال على تعلم اللغات. وتعدّ تكاليف تلك المعاهد كبيرة بالمقارنة مع دخل الفرد في سورية، لكنّها الخيار شبه الوحيد نتيجة انعدام الوسائل الأخرى بما فيها التعلّم الذاتي عبر الإنترنت. فخدمة الإنترنت متوفّرة بسرعة محدودة في معظم المدن فيما تنعدم في أخرى.
عبد الكريم أستاذ لغة فرنسية في حلب، يقول إنّ “ثمّة أكثر من 15 معهداً للغات في حلب وحدها، إلى جانب المدرّسين الخصوصيين. ومعظمها مكتظّ بالطلاب على الرغم من تكاليفها الباهظة”. يضيف أنّ “بين عامَي 2012 و2013، أغلقت السفارات والقنصليات المختلفة معاهد اللغات التابعة لها، وسافر جميع المدرّسين الأجانب أي المتحدّثون الأصليون بهذه اللغات. لذا تعتمد المعاهد المحلية اليوم على مدرّسين ملمّين بها، خصوصاً في المراحل الابتدائية والمتوسطة”. ويشير إلى أنّ “صديقي أستاذ جامعي حاصل على شهادة دكتوراه من ألمانيا. اليوم، بات أشهر أستاذ للغة الألمانية في حلب وبات يحصل عل مردود مالي يتجاوز عشرة أضعاف راتبه في الجامعة، خصوصاً مع عدم توفّر أساتذة متخصصين. هو شبه متفرّغ لتعليم اللغة، ولديه مئات الطلاب يستقبلهم ويدرّسهم في منزله. وتقدّر تكلفة الشهر الواحد للمستوى المتوسط بمائة دولار أميركي”.
امتحان في لبنان
لا يحظى أيّ من المعاهد العاملة في سورية اليوم باعتراف المعاهد أو الجامعات العالمية، كذلك لا تتوفّر للطلاب فرصة تقديم الامتحانات العالمية المعروفة للغات في داخل سورية. وهذا أمر يضطر كثيرين إلى السفر إلى لبنان أو تركيا في بعض الحالات لتقديم هذه الامتحانات، فيما يتحضّر آخرون لتقديمها في البلدان التي ينوون السفر إليها.
عصام طبيب متخرّج حديثاً يطمح إلى متابعة دراسته في الولايات المتحدة، يقول إنّ “كلّ الفرص والمنح الدراسية التي تقدّمت إليها تشترط الحصول على شهادة توفل. على الرغم من إتقاني الإنكليزية، إلا أنّني لم أستطع الحصول على الشهادة هنا. امتحانه لم يعد متوفراً في سورية منذ سنوات. لذا، سافرت قبل أشهر إلى لبنان وتقدّمت للامتحان هناك”. يضيف أنّ “شهادات اللغة التي تقدّمها المعاهد هنا غير معترف بها حتى للعمل في شركة أو منظمة في الخارج، خصوصاً مع انتشار ظاهرة تزوير الشهادات”. ويشير إلى أنّ “معاهد عدّة اليوم كانت قد تأسست كفروع لمعاهد عالمية معروفة، لكنّ الأخيرة سحبت اعترافها منها قبل سنوات بسبب عدم توفّر الشروط المطلوبة بسبب ظروف الحرب”.
اللغة الروسية
تحظى اللغة الروسية في سورية بإقبال متزايد في معاهد اللغات، خصوصاً في مدن محدّدة. ولعلّ الاهتمام بها كبير في اللاذقية، بخلاف اللغات الأخرى. يُذكر أنّ طلاب اللغة الروسية لا يرغبون في السفر إلى الخارج، بقدر ما يطمحون إلى الحصول على فرصة عمل.
لغات غريبة
بالإضافة إلى تلك اللغات، يلجأ عدد محدود من الطلاب إلى لغات أخرى غريبة، كاليابانية والفارسية. يقول شهم وهو أستاذ للغة الفارسية في حلب، إنّه يشرف على تدريسها لعشرات الطلاب الجامعيين، معظمهم من المتفوقين”. ويوضح أنّ “الطلاب المتفوقين في الماضي، كانوا يحصلون على بعثة إيفاد رسمية إلى دول أوروبية مختلفة. لكنّ الأمر توقّف في السنوات الماضية، وبات المتفوقون يبتعثون إلى روسيا وإيران بصورة أساسية. وهذا ما يدفع طلاباً كثيرين إلى التنافس على هذه البعثات، من خلال تعلم اللغة”.
طلاب آخرون يقدمون على طَرق أبواب جديدة، أملاً أن في أن تكون فرصتهم أكبر. هذه هي حال ندى وهي طالبة صيدلة تدرس اللغة اليابانية. تقول: “قريبي يدرس ويعمل في اليابان، وقد شجّعني كثيراً على البدء بتعلم اليابانية، مؤكداً لي أنّني بذلك أتمكّن من الحصول على قبول دراسي ومنحة هناك”. وهي تتابع تعلّم اللغة اليوم، مع مدرّس كان يعمل في المركز الياباني في حلب سابقاً، مشيرة إلى أنّها “لغة صعبة جداً وغريبة، يحتاج تعلّمها ثلاث أو أربع سنوات مكثفة. فرصتي كبيرة في الحصول على تأشيرة إلى اليابان، إذا كنت أتقن لغتها، خصوصاً أنّ لا منافسة عليها مثل الدول الأخرى”.
غزو لغويّ
تختلف الآراء حول دخول عشرات اللغات الأجنبية إلى الثقافة السورية، بين من يراه انفتاحاً على العالم ومن يرى فيه ضياعاً للهوية العربية. ويصف أمجد حميد وهو أستاذ لغة عربية في دمشق الإقبال الشديد على تعلّم اللغات في سورية بـ”الغزو الثقافي اللغوي”. يقول: “قبل أربع سنوات، نسبة معيّنة من الشبان والشابات كانوا يتعلمون الإنكليزية وقليلون جداً الفرنسية أو الألمانية. أمّا اليوم، فنجد كثيرين وقد قطعوا مراحل عدّة في لغات متنوّعة كالتركية والألمانية والروسية والهولندية”. يضيف: “هذا إلى جانب مئات الآلاف من اللاجئين الذين سوف يتحدّثون لغات بلاد اللجوء خلال سنوات. الأجيال المقبلة، لن تكون كسابقتها أبداً، وسوف تتراجع اللغة العربية التي لطالما عُرف السوريون بإتقانها”.