أزمة المفاوضات السورية
تتمحور الأزمة هنا، حيث يرفض النظام ذلك حتماً، وهو يصرّ على استمراره، كونه يمثل الشرعية التي أتته من “الانتخابات”، مع أن كل الانتخابات كانت مزورة، ومرتبة أمنياً، فلا شرعية لانتخاباتٍ تجري في ظل نظامٍ مستبد، يتحكم الأمن في كل مفاصله. وبالتالي، لا يعترف بأن الملايين التي ثارت ضده تعطي شرعية، على الرغم من أنها الأكثر شرعية، فالثورة هي الشرعية قبل الانتخاب. لكن، لا يمكن لوفدٍ يمثل النظام القائم، والذي خاض الحرب ضد الشعب، أن يقول غير ذلك، وأن يؤكد على شرعيته ورفضه التقدم خطوةً “وسط”، من أجل الوصول إلى حل سياسي.
ما جرى في تونس ومصر أن الجيش تقدّم لكي ينحّي الرئيس، ويبعد بعض أتباعه، طبعاً من أجل الحفاظ على “الدولة” (وهي دولة الرأسمالية المافياوية). وفي اليمن، أُبعد صالح بالضغط السعودي الخليجي، وكان إبعاده شكلياً جداً، أكثر مما حدث في تونس ومصر، وهذا ما أعاد الصراع، وأدخل اليمن في حرب داخلية (من الشعب والأحزاب ضد صالح والحوثيين) وإقليمية (التدخل السعودي).
“كان يجب أن يظهر طرف من السلطة يُبعد بشار الأسد ومجموعته، ليتقدّم نحو الوصول إلى تحقيق “مرحلة انتقالية”. لم يكن ضرورياً أن تكون في السنتين الأوليين مع المعارضة، بل كان يكفي “تقليد” تجربتي تونس ومصر“
بالتالي، كان يجب أن يظهر طرف من السلطة يُبعد بشار الأسد ومجموعته، ليتقدّم نحو الوصول إلى تحقيق “مرحلة انتقالية”. لم يكن ضرورياً أن تكون في السنتين الأوليين مع المعارضة، بل كان يكفي “تقليد” تجربتي تونس ومصر. هذا ما بدا ممكناً نهاية سنة 2012، حين خرج فاروق الشرع الذي كان حينها نائباً للرئيس بدعوةٍ (نُشرت في جريدة الأخبار اللبنانية المدافعة عن النظام) للتفاوض والوصول إلى حل، لأنه لا إمكانية لانتصار طرف. والواضح أن مبادرته كانت مدعومةً من أطرافٍ في السلطة. لكن، لعبت إيران من أجل ألا تسير الأمور في هذا المسار، حيث أقنعت الأسد بأنها قادرة على الدفاع عنه، وسحق الثورة، حيث بدأت ترسل قوات حزب الله وقوات طائفيةٍ عراقيةٍ ومن الحرس الثوري، فشلت في أن تهزم الثورة، على الرغم من أنها ما زالت تحاول، بعد أن أدخلت روسيا في الصراع المسلح.
بهذا، انتهت إمكانية أن تُبعد هيئة أو مجموعة من داخل السلطة الفئة المتمسكة بالحل العسكري، وفتح طريق تحقيق مرحلة انتقالية، تسمح بتغيير شكل النظام السياسي لمصلحةٍ تعدديةٍ سياسية، وحريات وانتخابات “حقيقية”. أو كما أسمي في تونس ومصر بدء “المسار الديمقراطي” الذي يفتح لمشاركة المعارضة. في الوقت الذي أصبح فيه القرار “ليس سورياً”، بعد أن تحكّم النظام الإيراني بالقرار في دمشق، على ضوء وجوده العسكري الكثيف، الوجود الذي بات هو الذي يواجه الثورة، بعد أن “هزُلت” قوى النظام، وتبخّر “الجيش العربي السوري”، وأصبح الضباط الإيرانيون من يحددون الخطط والقادة، حتى من السوريين. بدأ هذا الوضع من أول دخول مباشر لحزب الله، بداية سنة 2013، وكانت إيران تهدف منه إلى سحق الثورة، فهي كذلك لا تريد سقوط النظام، وتعتبر أن وجوده بقيادة بشار الأسد “مكسب إستراتيجي” لها. ولهذا أفشلت مفاوضات جنيف 2 بداية سنة 2014.
وظهر صيف 2015 أن ميزان القوى اختلّ لغير مصلحة النظام وإيران وحزب الله، بعد التقدم الذي حققته الكتائب المسلحة. وبهذا، جرى الحديث عن دعم أميركي لدور روسي لرعاية جنيف 3. لكن، ظهر أن روسيا تطمح إلى التدخل العسكري لحماية النظام، ولتكريس وجود اقتصادي عسكري طويل الأمد، لكنها عادت، بالتوافق مع أميركا، لفرض وقف إطلاق النار وبدء المفاوضات. وقد أرسلت روسيا الوفد الذي يمثل بشار الأسد كما كان في جنيف 2، ويتمثل تبريرها في أنه يمثل الشرعية، ولا شك أن هذه المسألة هي ما برّرت تدخلها في سورية به. وهو الأمر الذي يعني أنْ ليس هناك مراهنة روسية على المفاوضات، وأن روسيا ما زالت غير معنيةٍ بالوصول إلى حل سياسي، على الرغم من أنها تراهن على وقف إطلاق النار، لكنها، كما يبدو، تريد قضم مناطق المعارضة.
قال رئيس وفد النظام في مفاوضات جنيف، بشار الجعفري، إن مصير بشار الأسد غير مطروح للتفاوض، كما أنه ليس مطروحاً نقاش مسألة هيئة الحكم الانتقالية. وهو محق في أن مصير الأسد ليس مطروحاً، لكن بالضبط لأن أي حل يمكن أن ينجح يجب أن ينطلق أصلاً من إبعاد الأسد ومجموعته، وبالتالي، يكون خارج النقاش الذي يتركز على تشكيل هيئة الحكم التي تدير المرحلة الانتقالية. فمن يأتي من النظام يجب أن يكون موافقاً مسبقاً على بيان جنيف1 الذي يحدد المرحلة التي تلي حكم بشار الأسد.
لا بد أن يكون واضحاً أنه لا نجاح للحل مع بقاء بشار الأسد، ولا يفيد هنا التهديد بـ “معارضةٍ” أخرى، هي في الواقع مصنّعة، فهذا الأمر هو الذي يحدّد المعارضة من غيرها. كل حل يبدأ برحيل الأسد، هكذا ببساطة. ولهذا، يبدأ الحل من دمشق، ومن داخل النظام، بفعل ذاتي ربما لم يعد قائماً أو بفعل روسي. ومن دون ذلك، لا حل مهما استمرت المفاوضات. الحل بترحيل الأسد.