كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية عن ملابسات حدوث الانفجار الضخم الذي وقع في مرفأ بيروت الشهر الماضي وأودى بحياة نحو 190 وأصاب ستة آلاف نتيجة انفجار أطنان من المتفجرات والألعاب النارية، التي وصفتها بأنها كانت بمثابة «قنبلة مثالية» تركها نظام الفساد والرشى لسنوات.
وأوضحت الصحيفة، أنها حصلت على وثائق وصور حصرية لم يتم الكشف عنها من قبل تظهر التعامل بعشوائية مع المواد المتفجرة التي تجمعت في المرفأ والتي كانت تكفي لوقوع الانفجار الأكثر تدميراً في تاريخ لبنان، في حين نفت الكثير من الوكالات الحكومية مسؤوليتها عن الحادث.
وأكدت الصحيفة الأميركية، أنها أجرت عشرات المقابلات مع مسؤولي الموانئ والجمارك والأمن ووكلاء الشحن، وغيرهم من المتخصصين في التجارة البحرية والتي أظهرت كيف فشل النظام الفاسد في الاستجابة للتهديد الذي شكّلته تلك المواد المتفجرة بينما كان يجمع القادة السياسيون الثروة من خلال الرشوة والتهريب.
وأشارت الصحيفة إلى أن السلطات اللبنانية تلقت الكثير من التحذيرات منذ وصول شحنة نترات الأمونيوم التي تقدر بـ2750 طناً إلى مرفأ بيروت منذ 6 سنوات وتم تفريغها في الهنجر 12.
وأكدت أن تلك التحذيرات تكررت قبل أسابيع من وقوع الانفجار، لكن لم يتخذ أحد أي إجراء لتأمين المواد الكيميائية المتفجرة التي كانت أكثر من 1000 ضعف الكمية المستخدمة في تفجير أوكلاهوما سيتي الذي وقع في الولايات المتحدة الأميركية في عام 1995.
ولفتت «نيويورك تايمز» إلى أن ضابطاً يدعى جوزيف نداف حذر رؤساءه العام الماضي من خطورة وجود تلك المواد المتفجرة، وأنها تعتبر تهديداً أمنياً عاجلاً، حيث إنه اكتشف أن آلاف الأطنان من نترات الأمونيوم المخزنة في المرفأ تتسرب من أكياس ممزقة بجوار 15 طناً من الألعاب النارية والأحماض والكيروسين، باختصار، كل عنصر مطلوب لصنع قنبلة يمكن أن تدمر مدينة، لكن اتضح أن الكثير من المسؤولين اللبنانيين يعرفون الوضع بالفعل، وتابعت أن الضابط نداف، الذي دق ناقوس الخطر بشأن نترات الأمونيوم، أصبح أحد المحتجزين من قبل النيابة العامة.
وقالت إن تلك الكارثة نتيجة سنوات من الإهمال والبيروقراطية من قبل حكومة مختلة وظيفياً وضعت السلامة العامة في مرتبة أقل من أعمال أكثر أولوية متمثلة في الرشوة والكسب غير المشروع.
وذكر مسؤول أمني كبير للصحيفة، أن رئيس الوزراء حسان دياب أُبلغ بشأن المواد الكيماوية مطلع يونيو (حزيران)، وأنه خطط لزيارة الميناء لإثارة الموضوع، لكنه ألغى ذلك، حيث قال بيان صادر من مكتبه، إن الزيارة كانت «ستكون تفتيشاً روتينياً»، لكن تم تأجيله بسبب أمور أخرى ملحة.
وفي أواخر يوليو (تموز)، حذر جهاز أمن الدولة المسؤولين، في تقرير إلى مجلس الأمن الأعلى، الذي يضم رؤساء الأجهزة الأمنية ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، من خطورة تلك المواد.
في 4 أغسطس (آب)، تحركت الحكومة أخيراً، فأرسلت فريقاً من عمال اللحام لإصلاح المكان الذي تخزن فيه المواد المتفجرة، لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كان عملهم أشعل النار عن طريق الخطأ الذي تسبب في الانفجار في اليوم نفسه، لكن هذا هو السيناريو الأكثر احتمالاً.
وأوضحت أن اللبنانيين يشيرون بسخرية إلى المرفأ باسم «مغارة علي بابا»؛ لأنه يحتوي على كنوز ومليء بالفساد، ويمثل رمزاً لكل ما يقوله المتظاهرون اللبنانيون عن حكومتهم، حيث انتشر الفساد والخلل الوظيفي في أنحائه كافة.
وأكدت أن الفساد جعل مرفأ بيروت بوابة للبضائع المهربة في الشرق الأوسط؛ مما سمح للأسلحة والمخدرات بالمرور من دون عوائق تقريباً.
ولفتت إلى أن فساد الحكومة يكلف غالياً، حيث يقول المسؤولون، إن الرسوم الجمركية غير المدفوعة، في المرفأ ونقاط الدخول الأخرى، يمكن أن تصل إلى 1.5 مليار دولار في السنة، حيث يعتبر المرفأ بوابة ثلاثة أرباع واردات لبنان ونحو نصف صادراته، وقدرت هذه التجارة بـ15 مليار دولار، لكن لا أحد يشكو ما دامت الأموال تتدفق.
وأكدت الصحيفة، أنها وجدت أن نقل البضائع داخل الميناء وخارجه يتطلب سلسلة من الرشى لأطراف متعددة، منها مفتشو الجمارك للسماح للمستوردين بتجنب الضرائب، وكذلك العسكريون وضباط الأمن حتى لا تفحص البضائع، وذكرت على سبيل المثال أن ماسح البضائع الرئيسي في المرفأ لم يعمل بشكل صحيح لسنوات، مما ساعد على دفع رشى في عمليات التفتيش اليدوية للبضائع.
وفقاً لموظفي الموانئ ومسؤولي الجمارك ووكلاء الشحن والجمارك، فإن التهرب من القانون هو القاعدة وليس الاستثناء، وأن البضائع إذا خضعت لتفتيش فيكون تفتيشاً بسيطاً، وأن مسؤولي أمن الموانئ والاستخبارات العسكرية المكلفين الحفاظ على أمن الميناء يستغلون سلطتهم من أجل الربح، ويقبلون ما يسمونه «هدايا» للسماح لحاويات الشحن بتجنب التفتيش.
وقال مراجع حسابات في المرفأ، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته؛ خوفاً من العقاب «يستفيد الجميع ويذهبون إلى المنزل سعداء وجيوبهم ممتلئة».
وذكر اثنان من مسؤولي الجمارك، أنه عندما تم تعيين مدير جمارك جديد، في عام 2017، ناشد وزارة المالية للحصول على المال لشراء ماسح ضوئي جديد للبضائع ومركبات كافية للقيام بدوريات في الميناء، وتحديث نظام الكومبيوتر القديم، لكنهما قالا إن وزارة المالية رفضت الطلب، لكن وزير المالية اللبناني آنذاك علي حسن خليل قال إن وزارته تؤيد الطلب، وقال في مقابلة هاتفية «الرفض جاء من وزارات أخرى، وليس من وزارتنا»، لكن الصحيفة قالت إنه على أي حال، لم يتم استبدال الماسح الضوئي المكسور.
وقالت «نيويورك تايمز»، إنه على الرغم من بدء التحقيقات بشأن انفجار المرفأ واعتقال ما لا يقل عن 25 شخصاً على صلة بالحادث إلا أنه من غير المرجح أن تغير التحقيقات ثقافة سوء الإدارة الفادح التي مهدت الطريق للانفجار.
وأوضحت أن الميناء يعكس نظام الحكم الطائفي في لبنان، حيث يتم تعيين الأشخاص في المناصب الحكومية العليا وفقاً للطائفة، وتتنافس الفصائل السياسية على السيطرة على الأجهزة الحكومية، ويقوم قادة الأحزاب بتقسيم الكعكة الاقتصادية للبلاد.
وقال أحد الوكلاء الجمركيين، إن شركته تنفق 200 ألف دولار سنوياً على رشى لنقل البضائع عبر الميناء، وذكر آخر أن هناك شركات تستغل إعفاءات المعاقين لاستيراد البضائع معفاة من الضرائب، وأن سياسيين يقدمون شهادات من أطباء تفيد بإصابة أحد أقاربهم بعرج أو فقدان سمع لتجنب دفع ما يصل إلى 150 ألف دولار جمارك على سيارة مرسيدس أو فيراري.
وأوضح مسؤول، أن وزارة الشؤون الاجتماعية منحت العام الماضي رضيعاً مصاباً بمتلازمة داون يبلغ من العمر 3 أشهر إعفاء من استيراد سيارة فاخرة معفاة من الضرائب، وكذلك أكد مسؤولون، أن الأحزاب الكبيرة استفادت منذ فترة طويلة من الإعفاءات الضريبية للمؤسسات الدينية.
ونقلت «نيويورك تايمز» عن مسؤولين أميركيين وموظفين في الميناء والجمارك قولهم، إن «حزب الله»، الذي تصنفه الولايات المتحدة ودول أخرى «منظمة إرهابية»، يتمتع بقدرة فريدة على نقل البضائع دون فحص، بفضل شبكة منظمة من الموالين والحلفاء في الميناء.
ويقول مسؤولون أميركيون، إن «حزب الله» ربما لا يعتمد على الميناء لتهريب الأسلحة، حيث يفضل مطار بيروت الذي يسيطر عليه وكذلك حدود لبنان الطويلة والمليئة بالثغرات مع سوريا، لكن التجار المرتبطين بـ«حزب الله» يهرّبون البضائع عبر المرفأ ويقدمون مواد معفاة من الضرائب إلى المجتمعات الشيعة في لبنان، ولفتت الصحيفة إلى أن زعيم «حزب الله» حسن نصر الله نفى الشهر الماضي وجود أي وجود لـ«حزب الله» في الميناء.
نقلا عن الشرق الأوسط