نشأ حي جبل بدور خلال مراحل رحلة طويلة بدأت ببحث النازحين من الريف للمدينة في بداية ثمانينيات القرن الماضي عن حياة كريمة وامتلاك جدران وسقف، أهم ما ميز حيِّ جبل بدرو، أحد أكثر الأحياء الشرقية لمدينة حلب معاناة ، توسعه الخالي من أي تنظيم عمراني، وغياب الخدمات المترافقة مع توسعه السكاني، امتدت هذه المراحل للتهجير والدمار، والأمل بالعودة لأرض الذكريات والديار.
النشأة والتوسع العشوائي
يقع حي جبل بدرو في المدخل الشرقي لمدينة حلب من طرف طريق الباب، ويمتد حتى أطراف حي الصاخور، وتبلغ مساحته 205 هكتارات، نشأ عام 1980 على أراض زراعية خاصة، وبدأ البناء عليها جنوبا، ثم توسع شمالا وغربا وسط غياب التنظيم والتخطيط الحكومي. وقصده الأهالي للاستقرار في الحي آملين بحياة كريمة ومعيشة مستقرة قد يجدونها في حلب، أو في منطقة الشيخ نجار الصناعية التي توفر فرص عمل، كما أن انخفاض كلف البناء غير المرخص والحاجة له، كان من أحد عوامل الاستقرار فيه.
ومن دون شك كان لقانون الإيجار رقم 111 لعام 1952 الذي سلب حرية المؤجر وأعطى الحق للمستأجر بإقامة دعوى لتخفيض الإيجار، ونص على التمديد الحكمي لعقد الإيجار، تأثيرا في خوف مالكي البيوت من تأجيرها في الحي.
وثَّقَ الأهالي شراء المحاضر الزراعية من آل بركات والجوخدار وغيرهم بموجب أحكام محكمة ووكالة كاتب عدل، أما ملاك الأراضي الزراعية الأصليين فلديهم طابو أخضر بها، ولم تفرز الأوصاف الجديدة للأبنية المشادة بعد انتشار السكن العشوائي، لتباطؤ دوائر المساحة والسجلات العقارية بتصحيح الأوصاف والإفراز، و تراوحت مساحة المحضر الزراعي بين 60 لـ 140مترا.
في الحي نسبة ضئيلة لا تتجاوز الـ 15 % من أملاك الدولة، في الطرف الجنوبي الغربي من الحي، بنى النظام على مساحات منها مسجدا يعود لوزارة الأوقاف الإسلامية، ومدرسة ابتدائية، كما أن منها مساحة ملاصقة لطريق المطار جنوب غرب الحي بمساحة 4 هكتارات، زرعت بأشجار الصنوبر، يقصدها الأهالي لنزههم، بلغ سعر متر الأرض عام 1999 حوالي الألف ليرة سورية.
في عام 2000 انتهى مجلس مدينة حلب من إعداد المخطط العام للمدينة وصدّقه عام 2004 وضم جبل بدرو، ازداد البناء العشوائي في منطقة “أرض الفليفلة” كما يسميها الأهالي، في وسط وشمال الحي، وفي أقصى شرق الحي في حارة تسمَّى “مفرق مغسلة أبو جواد” القريبة من جهة المقبرة الإسلامية حتى امتلأت جميع المحاضر الزراعية تقريبا خلال الأعوام 2004-2010.
زاد البناء العشوائي بعد عام 2011 مع بدء المظاهرات المناهضة للنظام، وغياب البلدية، كان جزء واسع من جنوب شرق الحي مكبا للنفايات الصلبة والقمامة، ثم امتد البناء العشوائي على محاضرها كاملة بعد 2013.
اكتظاظ سكاني وخدمات متردّية
بلغ عدد سكان الحي وفقا لإحصاءات 2004، حوالي 25 ألفا، وارتفع لــ 40 ألفا في إحصاءات 2009، وصَنَّف مشروع تعديل المخطط العام لمدينة حلب عام 2017 جبل بدرو لنوعين، A69 من منتصف الحي الغربي، بكثافة سكان لــ 300، عام 2012، صفتها العمرانية المقترحة بكثافة 430، وحددت منتصف الحي الشرقي” A61 ” سكن بكثافة 430 كصفة عمرانية مقترحة.
أقر المهندس “وضاح قطماوي”، مدير الشؤون الفنية في مجلس مدينة حلب، عام 2009 بافتقار الحي لبنية تحتية جيدة، يوجد تسرب في شبكة الصرف الصحي الذي لا يتوفر في الحارات الشرقية، والتي يعتمد الأهالي فيها على إنشاء حفر خاصة له، حوالي 50% من البيوت موصولة بشبكات مياه البلدية المخططة بشكل سيء، وفيها معدل عال من تسرب المياه، مقابل دفعهم لرسوم وصلات المياه، بعد أن دفعوا مسبقا ثمن خزانات مياه للتزود منها، ويعتمد باقي السكان على شراء خزانات المياه وحفر الآبار الخاصة، كان القرار السياسي لحزب البعث عام 1982 لتقديم الخدمات للأحياء العشوائية، أحد العوامل المؤثرة في مد الحي العشوائي بهذه الشبكات التي تأتي من حي الصاخور المجاور، ولاحقا في التسعينات وصلت من حي هنانو.
في الجزء الغربي القديم من الحي وُصلت البيوتُ بشبكات الصرف الصحي للبلدية لم تخل من التسريب، أما سكان الحارات الشرقية بدؤوا بوصلها منذ عام 2007 ودفعوا ثمن الوصلات وأعمال الحفر لمتعهدي البناء، بعد أن اعتمدوا قبلها على إنشاء حفر خاصة بجانب المنازل لتصريف مياه الصرف.
أما بالنسبة للشوارع فالطريق الرئيسي في الحي واسع فقط، أما الشوارع في الحارات الشرقية فضيقة ومحفرة، وسائقو السيارات العامة يطلبون مبالغ إضافية، أو يرفضون التوصيل إليها، ما يسبب معاناة في حالات المرض والحاجة الملحة.
يفتقر الحي للمدارس التعليمية الكافية، فلا توجد فيه سوى مدرسة “دباغ الطه” الابتدائية التي لا تكفي للعدد الكبير من التلاميذ، ويلجأ الأهالي لمدرسة البحوث العلمية /عبد الله العمر/ التي تبعد 1 كم جنوبا، ويضطر التلاميذ لقطع أوتوستراد المطار الدولي، ولم يخل من حوادث وضحايا منهم، إضافة للجوئهم للمدارس الموجودة في حيي الصاخور وهنانو.
يضطر الأهالي لحمل أكياس القمامة لمسافات طويلة بسبب وضع حاويات القمامة على الشارع الرئيسي البعيد، ولا تتوفر في الحي مكبات قمامة صحية، ويستخدم الأهالي أرضا زراعية جنوب شرق الحي كمكب للقمامة حتى الصلبة منها، سواء من سكان الحي أو من الجرارات التي تأتي محملة بالحجارة المهدمة من أحياء قريبة لتفرغها فيها.
أوضح “قضماوي” عام 2009 أنه تم إنجاز المخطط التنظيمي التفصيلي مع البنى التحتية لحي جبل بدرو وغيره من الأحياء الشرقية، وقال عبد القادر هلال، أحد المهجرين من الحي، للمركز الصحفي، أنه في عام 2009 تسرب المخطط التنظيمي التفصيلي المستقبلي للحي على قرص مضغوط من مجلس المدينة، حوى المخطط مسابح مغطاة وشوارع عامة وحدائق ضخمة وتنظيم لا يمكن تطبيقه، اطلع على المخطط بعض الأهالي واعترضوا عليه مع من اعترض على المخطط العام عام 2012 ، والتي بلغت 1550 اعتراضا جعل مجلس مدينة حلب تسحب المخطط العام وتمنع تداوله إلى أن عُدِّل وصُدِّق عام 2018.
تواصل المركز الصحفي مع أحد المحامين من مدينة حلب تحفظ عن ذكر اسمه، وأكد وجود هذا المخطط التفصيلي للحي، وتم التنسيق معه لاستصداره من مجلس المدينة، وأشار بداية لسهولة الأمر ويسره، ولكنه فجأة توقف وأعلن انسحابه دون تفاصيل للمركز تُذكر، ولعل تحفظ مجلس المدينة الشديد على الملف للتخطيط السيء فيه واللاواقعي، هو أحد الأسباب.
صاروخ السكود، أقسى رسائل ما قبل التهجير، وضياع الحقوق
انضم الحي للمطالبين بالحرية من النظام السوري، وسيطرت قوات المعارضة عليه في تموز 2012، إلا أنه في منتصف ليل 18 فبراير/شباط 2013، سقط صاروخ بالستي على حي جبل بدرو، فقتل 47 شخصاً على الأقل، بينهم 23 طفلاً، وقال سكان محليون، بدأت قوات النظام بقصف موقع الهجوم بعد نحو 20 دقيقة من سقوط الصاروخ، فجرحت أشخاص عدة.
حوصر الحي في تموز عام 2016 في حصار الأحياء الشرقية الشهير وقصف بالبراميل والطائرات الحربية والصواريخ، وصنف من المناطق ذات التضرر العالي في البناء بنسبة 20%، وانتهى الحصار بتهجير 70% من سكانه إلى ريف حلب الغربي وتركيا وأوروبا، فيما نزح أقل من 10% لأحياء حلب الأخرة.
اعتبر الحي في مخطط 2018 كبقعة دراسة تخطيطية مصدقة إلا أنها بحاجة إلى تعديل جذري وفقاً لتقييم المخطط عام 2017، وأجرى النظام مسحا للحي من حيث التوزع السكاني وتحديد المحاور الأكثر كثافة سكانية وصَنَّف جبل بدرو لنوعين، منطقة A69 من منتصف الحي الغربي، بكثافة سكان لــ 300، عام 2012، صفتها العمرانية المقترحة بكثافة 430، وحددت منتصف الحي الشرقي” A61 ” سكن بكثافة 430 كصفة عمرانية مقترحة، وجرى المسح في ظل تهجير معظم سكانه.
صرح رئيس مجلس مدينة حلب “معن المدلجي” لوكالة أنباء النظام الرسمية “سانا” عام 2018 أن جبل بدرو سيكون التالي في مشروع التطوير العمراني التي سيلحظها المخطط التنظيمي، وتطابق حديثه هذا مع تصريح محافظ حلب المهندس “علي أحمد منصورة” السابق عام 2011 الذي أشار لدراسة تفصيلية لبعض المناطق العشوائية تتضمن منحيين، إما أن تعطى لمطور عقاري، أو أن تطبق الدراسة التفصيلية التي وضعت من قبل الشركة العامة للدراسات ومجلس مدينة حلب، لكن “المدلجي” أقر عام 2019 بصعوبة تنظيم حي جبل بدرو الذي يحتاج برأيه لـ 15 سنة لتطويره عمرانيا إذا توفرت مستلزمات التنظيم، لم يتحدد للآن القانون الذي يتوقع أن ينظم الحي.
ولكن بحسب حقوقيين سوريين، فإن قانون التطوير العقاري هو المنفذ لتطوير الحي، كما قد يطبق قانون الاستملاك رقم 20 لعام 1983، وهذا كله ضمن نظام التقسيم الذي ينظمه القانون رقم 23 لعام 2015.
أصدر النظام تعميما رقم 346 لعام 2019 بعدم التأخير بتنفيذ قانون رقم 19 لعام 2012 لمكافحة الإرهاب، الذي تنص المادة 1 منه تنص على تجميد الأموال لكل من يرتكب عملا إرهابيا، ونقل الملكية من اسم المحكوم إلى اسم الجمهورية العربية السورية، فكل من قد صنف كإرهابي لمشاركته في حراك 2011 من حي جبل بدرو مهدد بفقدان ملكيته.
الإجبار على بيع المنازل بالمال أو بالاعتقال
كان رجل الأعمال المقرب من النظام حسام قاطرجي يهدد أصحاب المنازل في حي جبل بدرو الممتنعين عن بيعها بالاعتقال، بحجة وجود أقرباء لهم في مناطق سيطرة المعارضة السورية، أو التهديد بهدمها بحجة أنها عشوائية، وبلغ عدد هذه المنازل التي اشتراها بثمن أقل من نصف قيمتها الحقيقي، حوالي60منزلا في نهاية عام 2020.
كما ركَّز سماسرة البيع والشراء في الحي، على شراء المنازل المتضررة بشكلٍ كبير أو غير المسجلة في السجل العقاري، كون سعرها أقل من المنازل الصالحة للسكن أو المدمَّرة بشكلٍ طفيف.
ونشطت عمليات نهب المنازل “التعفيش” في الحي من قبل ميليشيات النظام، ثم تجاوزتها للاستيلاء على المنازل، فاندلعت اشتباكات بين ميليشيات آل بري المقربة من روسيا، وبين ميليشات القاطرجي المقرب من إيران، تزامنا مع عودة بعض الأهالي لمنازلهم، بدأ السماسرة المرتبطين بالنظام وإيران بشراء المنازل، إضافة لنشاط شبكات التزوير التي تعمد للسيطرة على المنازل التي هجر أصحابها منها، حيث أن الوكالات تحتاج لوجود صاحب العقار أو من ينوب عنه، بموجب وكالة تحتاج موافقة أمنية، وهنا يقوم السماسرة بالالتفاف والتزوير وتثبيت العقار.
تحدث رئيس فرع التزييف والتزوير في إدارة الأمن الجنائي بحلب لجريدة الوطن السورية المقربة من النظام، بأن شبكة تزوير تضم قضاة ومحامين من حكومة النظام، تقودهم امرأة، تعمل على تزوير وكالات خاصة ببيع العقارات التي يمتلكها السوريون الموجودون خارج البلاد أو في مناطق المعارضة، أو تزوير وثائق تتعلق بالأشخاص المنتحلين لشخصية المالك الأصلي للعقار، موضحاً أن شخصا يملك لوحده 127 عقاراً في حلب.
وقد زار محافظ حلب حسين دياب الحي، في آب عام 2020 محاور في جبل بدرو تتم فيها أعمال القشط تمهيدا لتعبيدها (طريق الشيخ نجار القديم) على أن تنفذه الشركة العامة للطرق والجسور لكن للحظة إعداد التقرير لم ينفذ منه شيء، وأشارت معاون المدير العام للشركة العامة للدراسات الهندسية المهندسة مجد مصطفى عام 2020 إلى إضافة مشاريع تتعلق بالدراسات التخطيطية التنظيمية التفصيلية لمشروع جبل بدرو.
يسكن الحي حاليا قرابة الـ 1000 عائلة ويعاني من انعدام في الخدمات الأساسية وسط تهجير غالبية السكان الذين يرقبون عن كثب مآل أراضيهم وعقاراتهم ومصيرها المجهول، من بلاد المهجر والمنفى، لا يملكون سوى أوراقا عقارية، تحمل معها رائحة ذكريات الحي المكلوم.
المركز الصحفي السوري
أكرم الأحمد
.