نقلا عن وكالة الأخبار :
يبدو أن مسار «المصالحة» بين تركيا وسوريا لا يزال متذبذباً، في ظلّ اشتراطات عالية السقف يضعها الجانبان للسير قُدُماً على طريق تطبيع العلاقات.
وتَبرز في هذا السياق، مشكلة اللاجئين السوريين، والتي باتت ورقة في يد مَن يريد تعزيز حظوظه الانتخابية،
بدءاً من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي يُراوح موقفه بين التخلّص منهم والإبقاء عليهم ورقةً في الصراع الداخلي،
وليس انتهاءً بالأحزاب الهامشية التي تبني شرعيّتها على وعْد الترحيل الجماعي لهؤلاء، أو الطوعي بـ«الطبل والزمر».
لكنّ سلطة «العدالة والتنمية» لا تزال إلى الآن متباطئة في فتح حوار جدّي مع دمشق للخروج بحلٍّ لهذه المشكلة الآخذة في التفاقم،
فيما تفيد بعض المعطيات شبه الرسمية بأن ما نسبته 70% من اللاجئين السوريين في تركيا يرفضون العودة إلى بلادهم
ليس في الأفق ما يدلّ على تقدُّمٍ في مسار «المصالحة» بين تركيا وسوريا؛
فحديث أنقرة عن استعدادها لـ«فتح صفحة جديدة» مع دمشق، جاء مقروناً بسلسلة اشتراطات،
مِن بينها ضرورة اتفاق النظام السوري والمعارضة على مخرجات «اللجنة الدستورية»، وما يترتّب عليه من انتخابات تُفرز شرعيّة جديدة.
وفيما بلغ الحوار بين الجانبَين المستوى الأمني والاستخباري، وفق ما يؤكد الرئيس التركي،
رجب طيب إردوغان، نفسه، فإن ما يُشاع عن احتمال إجراء لقاء يَجمع وزيرَي خارجية البلدَين، لا يزال في دائرة التكهنات.
من جانبها، تشترط دمشق: انسحاب القوات التركية من سوريا، والقضاء على التنظيمات الإرهابية في إدلب والمناطق المحتلّة، وهي مطالب تعتبرها أنقرة «عالية السقف».
وفي انتظار حدوث تطوّر يجلّي تحوّلات جدّية في مسار المصالحة، تَبرز تفسيرات متباينة للصدامات بين التنظيمات المسلّحة في مناطق السيطرة التركية،
وما إذا كان الهدف منها توحيد البندقية تحت إمرة تركيا، وبالتعاون القسري مع زعيم «هيئة تحرير الشام»،
أبو محمد الجولاني، أم أن ما يجري هو «تمرّد» فعلي بدعم خارجي (أميركي)، لإرباك الساحة الداخلية، و
تحديداً مناطق السيطرة التركية، لمنع حدوث تقدّم في مسار التفاوض مع دمشق. وفي هذا الإطار، تؤكد مصادر تركية، لـ«الأخبار»، أن ما يجري ليس سوى مناورة من قِبَل أنقرة بهدف إنشاء جسم عسكري – أمني موحّد في مناطق وجودها،
وتالياً الذهاب إلى المفاوضات مع دمشق من موقع «قويّ» لفرض أمر واقع على السلطات السورية،
وإعطاء تلك المناطق «هوية خاصة» شبيهة بما يسعى الأكراد إليه من إقامة منطقة حكم ذاتي في مناطق شمال شرق الفرات. ويؤكد هذا التوجّه، التغييرات التي أُدخلت على البنى الديموغرافية والتعليمية والدينية وغيرها في مناطق السيطرة التركية، والتي لا تزال مستمرّة. ومن هنا، يبدو أن الأمور ستراوح مكانها، ما لم يَظهر فجأة مستجدّ يَفرض تغييراً في الوقائع.
وإلى ذلك الحين، فإن العوامل التي كانت تضغط على أنقرة لـ«فتح صفحة جديدة» مع دمشق لا تزال على حالها: الأوّل، التدهور الاقتصادي الذي تشهده تركيا في ظلّ تراجع سعر صرف العملة الذي لامس الثماني عشرة ليرات وستين قرشاً مقابل الدولار الأميركي، وارتفاع نِسَب البطالة، والغلاء الفاحش والتضخّم، وهو ما سيشكّل عاملاً حاسماً في بورصة الانتخابات الرئاسية حتى حزيران المقبل، تعزيزاً أو تقليصاً لحظوظ إردوغان. والثاني، هو مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، والتي برزت كمؤثّر قوي في تراجع شعبية رئيس الجمهورية في معظم استطلاعات الرأي. ويجلّي ذلك – مثلاً – ارتفاع نِسَب ما قد يناله «حزب النصر» الذي يرأسه أوميت أوزداغ – حزب هامشي وصغير جداً -، من الصفر تقريباً إلى 3%، بسبب خطابه الداعي إلى ترحيل اللاجئين السوريين فوراً. وهو ما دفع المعارضة أيضاً إلى التركيز على هذه المسألة، ووعْد الأتراك بإرسال اللاجئين إلى بلادهم معزّزين مكرّمين ومواكَبين «بالطبل والزمر». ما تقدَّم، أربك سلطة إردوغان وأَظهر أنها تريد إبقاء اللاجئين ورقةً في الصراع الداخلي، على رغم الحساسيّات التي يثيرها هذا الوجود في البلاد، فضلاً عن تسبُّبه في مشكلات اجتماعية واقتصادية. وقد دفعت هذه المسألة في إحدى المرات، إردوغان، إلى الإعلان أنه يريد إعادة اللاجئين إلى سوريا، لكنه ما لبث أن تراجع عن هذا الموقف بعد ساعات، على اعتبار أن «اللاجئين هم المهاجرون ونحن الأنصار»، مبقياً على موقف أنقرة متذبذباً.
وفي ظلّ إجماع المراقبين في تركيا على أن عودة اللاجئين تقتضي أولاً وقبل كل شيء أن تتمّ بفتح حوار مباشر وجدّي مع السلطات السورية، إلّا أن إردوغان يعمل على محاولة إيجاد حلّ لهم على طريقته، ومن دون أيّ تشاور أو تفاهم مع دمشق. وتقضي خطته التي أعلنها مراراً، ببناء «مدن الطوب» في مناطق السيطرة التركية، التي ستستوعب في المرحلة الأولى حوالى مليون ونصف مليون لاجئ، من مجموع أربعة ملايين يقيمون في تركيا. وهذا يعني في التحليل السياسي، إنشاء منطقة «جديدة» في الشمال السوري، وإحلال سكّان جدد فيها ليسوا منها أصلاً، واستحالة عودة «السكان الأصليين» إلى مناطقهم الشمالية. ولا شكّ في أن مثل هذه المخطّطات تواجَه بعقبات كثيرة، منها رفض الكثير من اللاجئين العودة إلى مناطق ليست مناطقهم الأصلية. كما أن المدن الجديدة تفتقر إلى المشاريع والمقوّمات التي تتيح انخراط العائدين في نشاطات زراعية أو مُدنية طبيعية.
وعُقدت في إطار مقاربة مشكلة اللاجئين ندوة أقامها «مركز أنقرة للسياسات» في 18 تشرين الأوّل الجاري، شارك فيها العديد من المسؤولين والمعنيّين بهذا الملفّ، والذين عكست آراؤهم مناخات سلبية بالنسبة إلى عودة اللاجئين، ليس فقط تبعاً لما تقرّره الحكومة التركية، بل وفقاً لأوضاع الكثير منهم ومدى رغبتهم هم في العودة من عدمها، وهو ما لا تستطيع أنقرة فرضه بالقوّة عليهم. وفي هذا الإطار، اتهم وزير خارجية مالطا السابق، إيفاريست بارتولو، أوروبا، بأنها «لا تريد إنقاذ اللاجئين من الغرق»، بل منْع وصولهم «وهي بهذا تتركهم يغرقون، وهذا أمر معيب أخلاقيّاً»، معتبرا أن لدى الأوروبيين «معايير مزدوجة، فهم يستقبلون اللاجئين الأوكرانيين، ويمنعون غيرهم من الوصول إلى شواطئهم».
إذا لم تُحلّ مشكلة اللاجئين سياسياً، فليس من عودة لهم إلى سوريا
وفي مقاربة تعكس التوجّه الغربي لمنع عودة اللاجئين، قال ممثّل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في أنقرة، فيليب لوكليرك، إن «مناخ الصدام في سوريا لا يبدو أنه سينتهي قريباً»، وإن «مشكلة اللاجئين سياسية، إذا لم تُحلّ في هذا الإطار فليس من عودة لهم إلى سوريا». ويعطي لوكليرك مثالاً على ذلك، اللاجئين السوريين في لبنان والذين يشكّلون ربع سكانه، إذ يقول إنه «على الرغم من أن الوضع الاقتصادي في لبنان منهار ولا يمكن مقارنته بتركيا، فإن هؤلاء اللاجئين لا يريدون العودة إلى سوريا. إن إعطاء المال للعائدين لن يحلّ المشكلة لأنهم سيستخدمونه من جديد للهرب من سوريا». من جهته، حصر مراد إردوغان، عضو الهيئة التعليمية في الجامعة التركية – الألمانية في إسطنبول، كلامه باللاجئين السوريين في تركيا، قائلاً إن 70% من هؤلاء لايريدون العودة إلى بلادهم إلّا بعد تحقيق السلام وتغيير النظام، لافتاً إلى أنه يعيش في المناطق السورية التي تسيطر عليها تركيا حوالى خمسة ملايين سوري، وفي حال لبّت أنقرة مطلب دمشق بالانسحاب من هذه المناطق، فإن معظم هؤلاء الناس سيبدأون بمغادرتها. ووفق إردوغان، فإنه منذ بداية الحرب في سوريا، «ولد في تركيا 820 ألف طفل سوري وبلغ عدد العاملين أكثر من مليونَين ومئتَي ألف شخص. أوروبا لا تفتح أبوابها إلّا للمهاجرين من ذوي الكفاءات العالية، في حين أن 35% من اللاجئين السوريين في تركيا أميّون لا يعرفون القراءة والكتابة، ولكنهم مرتاحون جدّاً للخدمات التي تقدّمها لهم الدولة على الصعيدَين الصحي والتعليمي». من جهته، يرى الكاتب مراد يتكين أن «حلّ مشكلة اللاجئين مرتبط على ما يبدو بإقامة نظام جديد في سوريا،وهذا يعني أن الحلّ ليس في يد تركيا وحدها. فهناك المناطق التي يسيطر عليها الأكراد ومعهم الولايات المتحدة، وهناك المناطق التي فيها الأسد ومعه إيران وحزب الله، وهناك الدور الإسرائيلي إضافة إلى تركيا». ولكن يتكين يلقي بالمسؤولية الكبرى في مشكلة اللاجئين، على الرئيس التركي، بالقول: «لكنّ المسؤولية الكبرى بلا شكّ تقع على عاتق رئيس الجمهورية إردوغان الذي اختار، منذ بدء الأزمة في سوريا، الانحياز إلى طرف ضدّ الأسد في الحرب الأهلية، والآن يعمل على لملمة الوضع».