فاطمة ياسين – العربي الجديد
تبدو الاتفاقية النووية المعقودة بين إيران وأميركا من جهة ومجموعة دول أوروبية من جهة أخرى، المعروفة باسم خمسة زائد واحد، مفصلةً على قياس أوروبا، فقد سمحت لمجموعة الدول الأوروبية بالتجارة والتعامل مع إيران، وعقد الصفقات التجارية والصناعية المتنوعة، في حين بقيت العلاقات شبه جامدة مع أميركا، مع تسييل مَبالِغ إيرانية كانت مجمدة في بنوك أميركية منذ فترة طويلة. ولم تفلح الاتفاقية في تقييد النشاط الإيراني البالستي المحموم، فقد أُطلقت منذ توقيعها في العام 2015 عشرات الصواريخ البالستية التجريبية التي قيل إنها بغرض الدفاع، لكن النقطة الأكثر أهمية أن إيران لم توقف نشاطها ذا الحرارة المرتفعة بهدف السيطرة على الإقليم وإيجاد أماكن تموضع عميق لها في الشرق الأوسط، مع استماتةٍ في الحصول على منفذ على البحر المتوسط.
لم يُرض الاتفاق الشريك الرئيسي لأميركا في المنطقة، وهو إسرائيل، فرفعت اعتراضاً في وجه الرئيس السابق، باراك أوباما، على الاتفاق، وما زال رفضها مرتفعاً ومهدّداً، واكتفت أميركا بفرض شروط صارمة على مراقبة النشاط النووي في العمق الإيراني، وقد أتاحت لها الاتفاقية أن تتأكد من أن إيران لن تحصل على السلاح النووي في القريب العاجل.
رضيت إيران بتأجيل حصولها على هذا السلاح الفتاك، وقد يكون التأجيل وقبولها الرقابة الدولية الصارمة، لعلمها أن اقتناء السلاح النووي أمر صعب في ضوء التربص الإسرائيلي، ومن خلفة التهديد الأميركي، فرضيت بوقفه لصالح استعادة ثروتها الضخمة المحتجزة في أميركا، وتطوير سلاح تقليدي لا يلقى المعارضة نفسها، وهو الصواريخ بعيدة المدى.
رفع وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض من حرارة المواجهة مع إيران بالتلويح بالخروج من الاتفاقية، وهو أمر متاح له قانوناً، ويلقى قبولاً في الوسط الجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ، وترحيباً وتشجيعاً لا حدود له من إسرائيل، ولكنه يلقى معارضة قوية وصلبة من الشريك الأوروبي. جرّب ترامب أن يخرق خطاً إيرانياً أحمر، بفرض مزيد من العقوبات عليها، والفهم الإيراني للاتفاقية النووية يقول بعدم جواز تطبيق أي عقوبةٍ جديدة ضدها.
كان رد الفعل الإيراني على هذا التجاوز فاتراً، وقد يعني هذا أن إيران مستعدة لتلقي بعض الضغط الأميركي ما دامت على ثقةٍ بأن العلاقات التجارية القوية التي بنتها في أوروبا، خصوصا مع ألمانيا وفرنسا، من القوة بحيث تمنعها من مغادرة الاتفاقية، وقد تكون قادرةً على استيعاب كل تغريدات الرئيس دونالد ترامب المهددة على “تويتر”، ما دامت الدولارات المجمدة تستمر في التدفق عليها، ويمكنها هضم كل الصعوبات الاقتصادية التي قد تتعرّض لها عقب كل تهديد، وآخرها قبل أسابيع، عندما تهاوت عملتها إلى مستويات خطيرة.
ربما تكون الأدوار قد انقلبت، ففي الماضي كان لدى إيران رئيس متطرّف يستميت ليعطي مزيداً من الحجج لأميركا، لتزيد ضغوطها، ومزيداً من الأسباب للمجتمع الدولي، ليظن أن إيران تتسبب في زعزعة الإقليم. أما الآن، فيبدو الرئيس حسن روحاني متفرّجاً، وقد ظهر مرة في بيته، بلباس عادي، يشاهد مباراة كرة القدم، فيما يصعّد ترامب من هجماته الكلامية. وعلى الرغم من كل ما يظهره من عزيمةٍ، فطريقته تبدو غير فعالة، وعلى الرغم من إقالة وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، الميال إلى سياسية الاستيعاب التي تفضلها أوروبا، وضمه نسراً ذا نزعة عسكرية هو جون بولتون، إلا أن هذه التغييرات تعكس وهناً واضحاً، وعدم تماسكٍ في هيكل الإدارة الحاكم. لا يظهر ترامب بتلك الجدية، ولا يمتلك العزيمة الكافية، ولا العمق الدبلوماسي ولا حتى العسكري، لتنفيذ عمل كبير يشكل فارقاً جوهرياً، هذا على الصعيد الشخصي. ومن الناحية العملية، لن تجد أميركا شريكاً لها في عملٍ كهذا إلا إسرائيل. وقد يجعل وجودها، حتى الدول العربية الراغبة في عمل عسكري ضد إيران، تنفر من هذه الفكرة. أما أوروبا فتخشى من ضغوط إنسانية كبيرة قد تتعرّض لها، وخسارة اقتصادية فادحة لا يمكن تعويضها. فلا يوجد أمام ترامب، في الوقت الحالي، إلا استمراره في حربٍ باردة مع إيران ذات نفس طويل، ومن يكسب أخيراً هو من يمتلك نَفَس غوَّاص.