حضرت، بعد ما يقرب العام على انطلاق التظاهرات في سورية، جزءاً من حفل فني سوري في مدينة أوروبية صادف وجودي فيها. كان الحفل مقاماً بهدف جمع تبرعات. اعتمد صاحب الحفل لتحقيق ذلك على إبراز معادلة «الجلاد والضحية» كتصوير لحقيقة ما يجري في سورية. وكانت هذه المعادلة بدأت تتثبت وتتجذر في مجمل خطابات ومنتجات المعارضة الخارجية، التي نشأت وتشكلت من شخصيات سورية استحضَرَها بعض وسائل الإعلام بناء على معايير خاصة ليس منها إطلاقاً أنها مُفرَزة من الحراك السوري.
لكنني أنا القادم في حينه من دمشق، المشبع برائحة شبابها وصباياها الرافضين استبداد النظام، لم أكن قادراً على استساغة فكرة أننا ضحايا. النظام سفاح نعم، هذا أمر أكيد ولا خلاف عليه، أما أن نكون نحن ضحايا فهذا ليس صحيحاً البتة. فاعتداء النظام علينا في شوارع الاحتجاج اعتقالاً وتعذيباً وقتلاً لا يحوّلنا من أبطال إلى ضحايا، والشباب والصبايا الذين خرجوا إلى الشوارع محتجين على سياسات النظام الاستبدادية كانوا صنّاع تاريخ ولم يكونوا ضحايا. هذا ما قلته لمن التقيته خارج الحفل بعد انسحابي منه. قلت لهم إن هؤلاء كانوا يحاولون صناعة تاريخ جديد لسورية حين ذهبوا إلى حيث النظام وصرخوا بملء حناجرهم: ارحل، فما عدنا نقبل أن تنتهك استخباراتك حرياتنا وحقوقنا.
هؤلاء الذين يتسوّل البعض على تضحياتهم ليسوا مساكين يباغتهم النظام في بيوتهم، بل هم من ذهبوا إليه مراراً وتكراراً، تملأهم الإرادة والعزيمة بإطاحته بهدف إقامة دولة تتعامل مع جميع السوريين كأفراد أحرار وأسياد.
«الجلاد والضحية» مقولة سيطرَتْ منذ ذاك الحين على الخطاب المعارض والأداء المعارض. فالمعارضة الخارجية، التي نصّبتها الأطراف الإقليمية وصية شرعية على مجمل الحراك، كانت صاحبة الكلمة الفصل في هذا الموضوع. فتمكنت من «تسليط» مقولة «الجلاد والضحية» على مجمل الحقل الثقافي والسياسي والأدبي والإعلامي والأخلاقي المعارض، إذ أصبح على كل قول أو فعل أن يتعامل مع هذه المقولة كمنطلق له أو مآل، لتكون المنصة الناظمة للتفكير والعمل والتقييم.
في المقابل، لم أجد لدى من عرفْتُهم في بداية الانتفاضة داخل البلاد شعور الضحية، بل كانوا يشعرون، وهم كثر، بالفخر وعلوّ الشأن.
اعتمدت المعارضة (بأل التعريف) مصطلح الضحية بدلاً من المظلوم الذي بمقدوره إن وعى شروط ظُلمه أن يعمل على رفعه عنه، في حين أن الضحية لا يمتلك مقدرة الوعي أو العمل، فهو مجرد غرضٍ يتم استخدامه من قِبل القيادات الثقافية والسياسية والإعلامية خلال اشتغالها على «البعد الأخلاقي»، كما يطيب لها أن تسميه، المتمحور على الشكوى والهجاء والرثاء. كما أنها ركّزت على صفة الجلاد أو السفاح لأن ثقافتها السياسية لا تتمايز كثيراً عن ثقافة العموم السوري إلا من الناحية الأفقية الكمية. فهذه الثقافة ليست نابذة للاستبداد ولا ترى ضرورة الانتفاض عليه. بل أكثر من ذلك، إذ ما زالت تتغنى بحكم السلف من الأئمة المستبدين الأشداء.
السفاح والضحية ممتنعان معرفياً، فلا يجوز معهما التجريب أو البحث أو الاستقصاء أو أي عملية معرفية أخرى، فالجهد الذهني الوحيد المتاح في حقلهما هو حصراً جمع أدلة تعزّز إثبات وجودهما الواقعي، بل يكفي تعزيز وجود أحدهما فقط، إذ إن وجوده يستوجب وجود الثاني بالضرورة، وغيابه يغيّب الثاني حتماً. هذا الأمر جعل من الاشتغال الثقافي أو الفكري أمراً يسيراً وبمتناول الجميع، إذ اقتصر على مجرد تأكيد وجود السفاح أو وجود الضحية. وبالتالي هو مجرد اجترار لما يعرفه ويردده عامة الناس وأبسطهم.
لم تكن مقولة «الجلاد والضحية» هامشية بل مركزية ومتسلطة على كل قول ورأي، وقامعة لأي محاولة للخروج عنها والنظر إلى واقع الصراع بطريقة مختلفة، معتبرة ذلك بمثابة عمل غير أخلاقي بحده الأدنى، أو عملاً داعماً، في شكل واعٍ أو غير واعٍ، للنظام السفاح. فبالتالي لم تكن آثارها بسيطة أو مقتصرة على الميدان الكلامي، بل كانت عملاً قاصماً للطموح الثوري والتطلع الثوري من خلال اعتبار مواجِهي النظام مجرد ضحية، أي ليس في مقدورهم، كونهم كذلك، فعل أي شيء. وذلك بهدف سلبهم حقهم بإنتاج قيادات من بين صفوفهم يكونون مؤهلين لقيادة الحراك، وذلك لإبقاء ذلك حكراً على دوائر دولية تفرّدت وحدها بإنتاج «قيادات» من أشخاص خارج البلاد منحتهم شرعية الولاية الرسمية على الضحية وعلى شؤونها. فالضحية ليست فقط عاجزة عن الفعل بل إن هدف وجودها كضحية هو تمكين هذه الدول من تنصيب أولياء عليها، أي على الشعب، بصفة ممثلين شرعيين لها يعملون لخدمة هذه الدول. وبهذا تكون الضحية وولاة أمرها المنصَّبون عليها غير قادرين على الفعل السياسي. فالولاة لا يجوز لهم الفعل السياسي فهم مجرد ممثلين شرعيين للضحية لا أكثر. أي يحضرون إلى منصّات التمثيل (جنيف نموذجاً) حين توفدهم دولهم الراعية لهم والمخوّلة الوحيدة بمساءلتهم ومحاسبتهم وتحديد دورهم ومهماتهم. وهذا يعني استفراد النظام وحده بالحقل السياسي.
من الضروري أن تكون الأخلاق أحد مسارات الصراع مع النظام، وأن تكون القيم الأخلاقية ضمن المحمولات الثورية. فلا مجال لأي ثورة أن تكون ثورة ما لم تخض صراعاً رئيسياً في الحقل القِيَمي مع النظام الذي تثور عليه. والنظام السوري كان خصماً سهلاً في هذا الحقل، إذ إن ما يمتلكه من الأخلاق الشوارعية، وأخلاق الغابات، وأخلاق قطاعي الطرق. لكن المعارضة «الثورية» بجميع مستوياتها، الثقافية والفكرية والسياسية، وعلى رغم أنها قَصَرَت شغلها الثقافي والسياسي والكلامي على «البعد الأخلاقي»، أخفقت في شكل مطلق بتحقيق أي تقدم على النظام في هذا الميدان. فعوض الانطلاق من منصة مناصرة المظلوم عبر العمل على الإطاحة بجميع شروط إنتاج الظلم وجميع صنوف الظالمين، وليس الاكتفاء بالعمل على إطاحة شخص واحد ومجموعته، قامت بتحويل المظلوم إلى مجرد ضحية معتبرة قاعدة «لا عتب على الضحية» صالحة لتكون قاعدة للأخلاق الثورية التي تجعل من حق الضحية القيام بجميع الكبائر من دون لومه أو مساءلته لكونه ضحية. وهذه القاعدة المغلوطة كانت كفيلة بتقديم التبرير المطلق لتَحوّل الضحية إلى جلاد أو طغيان أو إرهاب، كما هو حال جبهة النصرة (فتح الشام حالياً). إذ من حق الضحية، وفق هذه الأخلاق «الثورية» السورية، أن تنتمي إلى تنظيم القاعدة وتبقى ضحية، وأن يُتَّهَم مخالفو هذا القول بالمساواة بين الضحية والجلاد.
«البعد الأخلاقي» القائم على مقولة «الجلاد والضحية» الذي تتمسك به النخب المعارضة لا يصلح البتة أن يكون محمولاً ثورياً، بل على العكس هو معيق لأي طموح ثوري. فالضحايا لا يمكنهم أن يقودوا المجتمع أو يصنعوا تاريخاً، وليس في مقدورهم أن يكونوا ثواراً من حيث المبتدأ. فالثورة، التي هي حق السوريين في تغيير واقعهم الاستبدادي من مرحلة التخلف على جميع الأصعدة إلى مرحلة الحداثة، تحتاج إلى قياداتٍ أبطال وإلى صنّاع تاريخ ثوار، وتحتاج إلى قيم أخلاقية نقيضة ومُزيحة لجميع قيم الاستبداد والطغيان التي عممتها الأنظمة المستبدة في سورية وفي المنطقة عموماً. وفي شكل عام تحتاج هذه الثورة المأمولة إلى رجال ونساء شجعان لا يكتفون بمواجهة طغيان النظام فقط، بل يواجهون طغيان معارضيه المولودين من ضلعه أيضاً.
الحيلة اللندنية