كل ما يعلن ويقال عن الحرب على الإرهاب والحشد العالمي لمكافحته لا قيمة له إن لم يُبحَث عن أصل العلة للحسم في معالجتها ودراسة الأسباب والدوافع والخفايا والأبعاد والأسرار لاستئصالها واقتلاعها من جذورها. وأي حديث آخر ما هو إلا سوء تقدير أو سوء نية وتأكيد للشكوك والظنون بالمشاركة أو غض الطرف عن نشوء هذه الآفة التي نخرت جسد الأمة وعرضت مصيرها للأخطار وهددت أمن العالم بأسره.
فلا بدء معركة الرقة ولا عمليات تحرير الفلوجة وصولاً إلى الموصل تعد انتصاراً على الإرهاب، إن لم يتم القضاء على الوحش الذي ساهمت في صنعه جهات عدة، وإلا فإن البديل هو إغماض العين على هذا السرطان المستشري في كل مفاصل البلاد والمنتشر في كل أرجاء العالم على يد مئات الخلايا التي جرى كشفها والخلايا النائمة التي قد تتحرك في أي لحظة وتضرب ضربتها، كما حدث في أورلاندو وباريس أخيراً.
والأخطر من كل ذلك أن معظم عمليات «داعش» وأخواتها تطاول العرب والمسلمين في دولهم وديار الاغتراب من دون إنكار وقوع بعض العمليات الإرهابية في الغرب، مع استثناء إسرائيل التي تعيش آمنة مطمئنة. فقد تسببت «داعش» بإلحاق أضرار بالغة بالعالمين العربي والإسلامي، إن على صعيد الأوضاع الداخلية وهز الاستقرار والأمن والاقتصاد أو بالنسبة إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين.
وأدى هذا إلى إعطاء الذرائع للصهاينة وأعداء الإسلام والمتطرفين والعنصريين لتأجيج نيران أحقادهم ومضاعفة دعايتهم الخبيثة وحملاتهم على الدين الحنيف والمطالبة بطرد المسلمين واعتبارهم إرهابيين يهددون الدول التي يقيمون فيها، ما يعرّض الجاليات الإسلامية الآمنة في الغرب ويضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء حيث هي ومواجهة الأخطار وقطع أرزاقها، أو الرحيل إلى المجهول في ديارها حيث المعاناة وانعدام فرص العمل بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي دفعت إلى الهجرة.
والمؤسف أن من يدّعي الدفاع عن الإسلام هو نفسه الذي يعمل في شكل منهجي وموازٍ لكل ما تسعى إليه القوى العنصرية والأعداء، وعلى رأسهم إسرائيل، لأسباب كثيرة بينها قطع السبل أمام أبناء الجاليات الذين يسعون إلى إثبات وجودهم في الدول التي يقيمون فيها وتعزيز قدرتهم على التأثير في السياسات العامة بعدما رسخوا أقدامهم وأوصلوا المئات من المتميزين إلى مناصب عليا نيابية ووزارية وإدارية، بينها منصب عمدة لندن الذي تولاه رجل مسلم للمرة الأولى في تاريخ بريطانيا في انتخابات عامة.
ولا نغفل أيضاً إنجازات كبرى لأطباء ومحامين ومهندسين ورجال علم وإعلام وأعمال وفنانين ومبدعين عرب ومسلمين في كل المجالات على امتداد العالم، إضافة إلى مخترعين في عالم الطب والعلم والتكنولوجيا، وهم يقابلون بكل تقدير واحترام.
ومن المؤسف أكثر أن الهجمات تأتي على رغم أن هذه الجاليات حصلت على حقوق وامتيازات وتقديمات إنسانية وتعليمية وصحية ومالية لا يحصل أي مواطن في وطنه الأم على واحد في المئة مما حصلت عليه. كما أن التسامح قبل انتشار الإرهاب كان سيد الموقف، وكانت المساواة شبه تامة (ومازالت) في الحقوق والواجبات من دون تفريق بين مسلم وغير مسلم.
ويكفي التذكير بالسماح ببناء مئات المساجد في أوروبا وأميركا وأستراليا ومشاركة المسؤولين في احتفالات المسلمين، بل إن الحكومة البريطانية عمدت أخيراً إلى تغيير مواعيد الامتحانات الرسمية تسهيلاً لصوم الطلاب المسلمين، فيما أصدرت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل قراراً بخفض الضرائب على المتاجر الإسلامية خلال شهر رمضان. ونقرأ دوماً على أبواب الكنائس عبارات، مثل «نهنئ أصدقاءنا المسلمين بالعيد المبارك ونتمنى لهم الخير والأمان».
ويحاول الإرهابيون والمتطرفون، ومعهم العنصريون، القضاء على هذه المبادرات عبر أعمال طائشة لا تحقق أي هدف سوى نشر الكراهية والأحقاد وتشويه صورة الإسلام، دين التسامح والمودة والتعارف، والإساءة إلى المسلمين أو الخوف من الإسلام، والتي يروج لها بعض المغرضين عبر صب الزيت على نار «الإسلاموفوبيا».
والأنكى من ذلك توافد المئات، بل الآلاف، من المتطرفين والمتعصبين إلى الغرب ليتنعموا بتقديماته الكثيرة. وبدل الشعور بالامتنان، شهدنا حالات كثيرة لتهديد الأمن ونشر الكراهية والأحقاد ووصف الدول التي آوتهم ومنحتهم الحرية والأمان بأنها «دار الكفر» من دون أن يسأل هؤلاء أنفسهم: ما الذي أتى بكم إلى هذه الديار؟ ومن الذي أرغمكم على العيش مع «الكفار»؟ وكيف تفسِّرون الدين السمح وفق أفكار مشبوهة وممارسات منكرة مع أنه كان من الأجدى بكم إعطاء القدوة الحسنة عن سماحة الإسلام وطيبة المسلمين وقيمهم الإنسانية ورغبتهم في التعايش مع من أمّن لهم العيش الكريم؟
وهنا بيت القصيد، إذ يجب على كل الأطراف، إلى أي دولة أو جهة أو دين انتمت، أن تعمل بجد وحزم وصدق على معالجة هذه الآفة واجتثاثها من جذورها لا عبر عمليات تجميلية ولا من خلال تحركات استعراضية، ولا بادعاء بانتصارات زائفة. فالصراحة تقتضي القول إن الخطر لا ينحصر في الرقة وحسب، ولا في الموصل وأي مكان آخر وصلت إليه «داعش»، بل هو منتشر في سائر أرجاء العالم وعلى امتداد العالم العربي. وأكبر دليل على ذلك الإعلان يومياً عن اكتشاف مزيد من الخلايا الإرهابية والتعرف إلى أسرار عملها المختلفة وتعدد الطرق والأساليب الملتوية التي تلجأ إليها.
ولهذا لابد من الاعتراف بوجود هذا المرض المستشري في العالم والاقتناع بأن العلاج غير ممكن إلا باستئصاله من جذوره وإزالة مسبباته وعدم الاكتفاء بالحل العسكري والأمني فقط. صحيح أنه مطلوب بإلحاح في هذه المرحلة، إلا أن الواجب يقتضي العمل على مختلف الجبهات والبدء بالمصارحة مع الغرب، والدول الكبرى تحديداً، للاتفاق على خطة عمل وخريطة طريق بين دوله والدول العربية والإسلامية، بحيث لا يمكن تحقيق المصالحة ونزع صواعق التفجير إلا بتنفيذها.
ولا يمكن في هذه العجالة تعداد كل ما يمكن عمله في هذا المجال، إلا أن الخطوة الأولى يجب أن تبدأ بنزع صواعق التفجير المتعددة وأهمها الجهل والفقر والتعصب وانعدام الوعي بالحقائق ورفض لغة الحوار. كما أن لا بد لكل الأطراف من التلاقي في منتصف الطريق لحل مشكلة الحذر المتبادل ووضع حد للترويج للصور النمطية القديمة والسيئة عن العرب والمسلمين التي تسببت بتعميق هوة الخلاف ونوازع الكراهية والخوف من الآخر ونظرة العداء المستحكم عبر الأجيال لأسباب كثيرة تعود إلى زمن الاستعمار والاستغلال والنظرة الفوقية.
ولا بد قبل البدء بالحوار والمصارحة من وضع النقاط على الحروف والاتفاق على مبادئ جوهرية يمكن الانطلاق منها على أسس علاقات الند للند والتخلي عن سياسة الهيمنة والمطامع واستخدام العرب والمسلمين في أتون حرب المصالح. ولا بد أولاً من وضع قضية فلسطين والسلام في الشرق الأوسط على رأس جدول الأولويات لأنه من غير الممكن تحقيق أي تقدم من دون إيجاد حل عادل يمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وأولها حق العودة وإقامة دولته المستقلة على أرضه المحررة.
فمن دون تحقيق هذا الهدف الحيوي، لا بد من أن نتوقع مزيداً من التطرّف والتعصب والعنف، خصوصاً أن ملايين اللاجئين السوريين والعراقيين وغيرهم انضموا إلى ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في مخيمات البؤس والعار منذ 67 سنة، ما ينذر بارتفاع منسوب الخطر والنقمة.
ولهذا، فإن هذا الحل يجب أن يتزامن مع وضع حد للحروب المشتعلة في المنطقة وإحلال السلام ووضع خطة دولية لإعادة اللاجئين إلى ديارهم وإعادة الإعمار لضمان قيام دول مستقرة تقوم على الديموقراطية والعدالة والحريّة والمساواة.
أما البنود الأخرى، فيقع تنفيذها على عاتق المسؤولين في الدول العربية بمشاركة جميع فئات المواطنين، ولا سيما رجال الدين والإعلام والأعمال والهيئات الوطنية والاجتماعية، لنشر ثقافة المحبة والتسامح ونبذ العنف وبدء حملة توجيه عقلاني يضع حداً للتعصب والتطرف ونشر راية الاعتدال والوسطية التي رفعها المسلمون عبر العصور.
والأكيد أن الإعلام مطالب بأن يلعب دوراً فاعلاً في هذا المجال نظراً إلى ما بات يتمتع به من قدرات وإمكانات من خلال التطورات التكنولوجية وثورة المعلومات والبث المباشر عبر الأقمار الاصطناعية ووسائل التواصل الاجتماعي.
وبكل أسف، فإن هذه الإمكانات تحولت من نعمة إلى نقمة، وبات الإعلام أسيرَ حالين متناقضتين: إما الدعوة إلى التطرف ونشر الفتاوى التي تحرض على العنف، أو الترويج للانحلال والانحراف والفلتان الأخلاقي والتعرض للمقامات الروحية تحت قناع الدفاع عن الحريات وحق التعبير عن الرأي.
لكل هذه الأسباب، تتصاعد الدعوات إلى المسارعة في بدء تنفيذ خريطة الطريق قبل فوات الأوان وغرق المركب بمن حمل، لا فرق بين مسلم وغير مسلم أو بين عربي وأعجمي وبين شرق وغرب وكبير وصغير، فالكل سواسية في تحمل النتائج وما تحمله من ويلات، والكل مسؤول عن إيجاد علاج لهذه الآفة واجتثاثها من جذورها.
الحياة – عرفان نظام الدين