سسبعد أن بات من حكم المؤكد أن آمال تركيا في تحقيق تعاون استراتيجي مختلف مع الإدارة الأمريكية الجديدة انتهت فعلياً، يبقى التساؤل حالياً عن مدى قدرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تقديم عروض تنجح في «إرضاء» نظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي يزور واشنطن بين 15 و17 من الشهر الحالي، و ذلك للحفاظ على «الحليف التركي» ومنعه من التوجه أكثر نحو روسيا في ظل الابتعاد المتواصل عن أمريكا والناتو والاتحاد الأوروبي.
سفتركيا التي كانت تُحضر نفسها منذ أشهر لأول لقاء بين أردوغان وترامب تلقت مفاجأة مزعجة بعد أن وقّع الأخير قبل أيام على قرار وزارة الدفاع الأمريكية بتقديم أسلحة ثقيلة إلى وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا والتي تقول تركيا إنها الامتداد السوري لتنظيم العمال الكردستاني وإن هذه الأسلحة تشكل تهديداً فعلياً على أمنها القومي، وهو الملف الذي كان أبرز محطات الخلاف مع إدارة أوباما السابقة، وكان أردوغان يعول على تفهم أكبر من ترامب لحساسية هذا الملف بالنسبة لتركيا.
هذه الآمال التي تبخرت فعلياً أدت إلى تغيير كبير في خطط اللقاء وتقليص سقف المطالب التركية من المطالبة باستبعاد الوحدات الكردية من عملية الرقة ووقف الدعم الأمريكي لها، إلى مطالب أقل ستكون أقرب لمحاولة منع تسليم الوحدات الكردية أسلحة «خطيرة» والحصول على بعض الضمانات الأمريكية المتعلقة بمستقبل المناطق التي ستسيطر عليها هذه القوات في الرقة وغيرها.
وبينما رأى مراقبون أن قرار ترامب الذي أغضب أنقرة جاء قبل أيام من زيارة أردوغان في محاولة لابتزاز أنقرة وتقليص مطالبها، فسره آخرون على أنه يعبر عن رغبة أمريكية بإعلانه قبيل الزيارة من أجل احتواء آثاره أثناء القمة بين الرئيسين ومحاولة ترامب تقديم بعض العروض والضمانات للدولة التي وصفها بأنه «حليف مهم واستراتيجي في حلف شمال الأطلسي».
رئيس الوزراء التركي لخص، الجمعة، الرسائل التي سينقلها أردوغان إلى ترامب بالقول: «نحن منذ البداية حلفاء في الـناتو، وشركاء استراتيجيون، يمكنكم محاربة الإرهاب في المنطقة بالتعاون مع تركيا فقط، وليس مع منظمات إرهابية أخرى. بما أننا دولتان صديقتان وشريكتان لذا ينبغي عليكم (أمريكا) طرد زعيم منظمة غولن، خارج حدودكم، بعد استكمال العملية القانونية».
وبعد الاستبعاد الكامل لسيناريوهات قبول واشنطن بخطط تركيا لتطهير الرقة واستبعاد الوحدات الكردية، يتوقع أن تجري مباحثات حول إمكانية منح مهمة الدخول إلى أحياء الرقة إلى العناصر العربية والتركمانية في قوات سوريا الديمقراطية وتقديم ضمانات تتعلق بانسحابها من المدينة عقب تحريرها وتسليمها لقوات ومجلس محلي عربي من سكان المدينة، أو موافقة واشنطن على مشاركة عناصر أخرى من قوات المعارضة السورية المعتدلة المدعومة من أنقرة في العملية.
كما سيعمل أردوغان ـ الذي قال إنه سيُطلع ترامب على صور وأدلة تثبت العلاقة بين وحدات حماية الشعب وتنظيم العمال الكردستاني الإرهابي ـ على الحصول على ضمانات بعدم وصول الأسلحة الأمريكية إلى العمال الكردستاني واستخدامها ضد القوات التركية، بالإضافة إلى سحب ما تبقى منها عقب انتهاء عملية الرقة.
وبعد أن شددت أنقرة في أكثر من مناسبة على أنها لن تشارك أبداً في أي هجوم على الرقة إلى جانب الإرهابيين (في إشارة إلى الوحدات الكردية) يمكن أن تقبل بذلك من منطلق «تقليل الأضرار» ومحاولة الحصول على موطئ قدم والبقاء في الميدان أفضل من الانطواء الذي سيبقى الميدان للوحدات الكردية فقط.
وهذه الضمانات من شأنها أن تخفف لا أن تُنهي مخاوف أنقرة من أن يؤدي التسليح الأمريكي وتوسيع مناطق سيطرة الوحدات الكردية إلى فرض حقائق جديدة على الأرض ستجعل من فكرة إقامة كيان كردي في شمالي سوريا أقرب من أي وقت مضى وهو ما ترى فيه أنقرة أخطر السيناريوهات على أمنها القومي.
لكن حالة انعدام الثقة من قبل تركيا التي امتدت من إدارة أوباما إلى ترامب ستجعل من تصديق أنقرة لأي وعود أمريكية جديدة أمراً صعباً لا سيما وأنها ما زالت تنتظر إيفاء واشنطن بتعهدها بسحب الوحدات الكردية من مدينة منبج عقب طرد تنظيم الدولة منها قبيل أكثر من عامين.
في المقابل تبدو خيارات أنقرة محصورة جداً وتتعلق إما بالقبول بالحلول الوسط من قبل الإدارة الأمريكية أو محاولة المناورة عبر تكرار العمليات الجوية ضد وحدات حماية الشعب في سوريا كما حصل قبل نحو أسبوعين أو القيام بعمليات عسكرية محدودة في مناطق حدودية كتل أبيض. وهي مناورات تحتمل هامش مخاطرة كبيرا إذا لم تكن بضوء أخضر أمريكي مسبق.
وفي إشارة إلى ذلك، هدد رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، الجمعة، بأن أنقرة ستواصل قصف الوحدات الكردية في سوريا «حال وجود أي تهديد بغض النظر عن التسليح الأمريكي لها»، وقال: «لسنا بصدد إعلان حرب على أمريكا، بل حربنا متواصلة ضد المنظمات الإرهابية».
وفي إطار هذه الخيارات، يبقى هناك سيناريو التصعيد والابتعاد، فإذا لم يتمكن أردوغان من الحصول على حلول وسط ترضي الحد الأدنى من مطالبه، ربما يلجأ إلى التصعيد عبر وقف تعاونه في الملف السوري مع واشنطن ووقف مساهمته في الحرب على الإرهاب وربما إغلاق قاعدة «إنجيرليك» الجوية الأساسية في عمليات التحالف ضد تنظيم الدولة في سوريا، وهو ما لوح به المسؤولون الأتراك أكثر من مرة.
وفي هذه الحالة سيترتب على ذلك رغبة تركية أكبر في التقارب مع روسيا وتعزيز التعاون معها في الملف السوري والعلاقات الثنائية على الصعيد «الاستراتيجي» لا سيما أن هذه التطورات تأتي في ظل تصاعد الخلافات بين تركيا من جهة والناتو والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وهو أمر تخشاه جميع هذه الأطراف التي لا ترغب في رؤية تركيا تصطف إلى جانب روسيا وتبتعد أكثر عن الناتو. بالإضافة إلى مساعي أردوغان لتعزيز علاقاته مع الصين والانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون.
ولا يبدو أن أردوغان يرغب في الانزلاق إلى هذا السيناريو، حيث امتنع كبار المسؤولين الأتراك عن التشدد في مهاجمة واشنطن عقب قرار التسليح الأخير، كما قال قبل توجهه إلى الصين ومنها إلى واشنطن: «إن اللقاء سيكون ميلاداً جديداً للعلاقات بين البلدين، وليس من الصواب رؤية حليفتنا الولايات المتحدة الأمريكية جنباً إلى جنب مع تنظيم إرهابي»، مضيفاً: «المعلومات القادمة من الجانب الأمريكي مطمئنة إلا أنها غير كافية»، مجدداً التهديد بأن بلاده لن تترد في القيام بعمليات عسكرية في سوريا والعراق لحماية أمنها «إذا اقتصت الضرورة ذلك».