«عندما يتصارع الأقوياء يدفع الضعفاء الثمن» واحدة من الحكم التي يمكن الوصول إليها من حكايات إيسوب الإغريقي، وهي الحكمة التي لا تنفي الحالة المناقضة التي يدفع فيها الضعفاء ثمن الصداقة بين الأقوياء أيضا.
طرحت تلك المقولة نفسها على خلفية الحديث عن الكيمياء، التي تجمع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أثناء القمة العربية- الإسلامية- الأمريكية في السعودية يوم 21 مايو 2017. لم تتوقف التعليقات المؤيدة للسيسي عند هذا الحد، ولكنها تحركت خطوة أكبر بالتأكيد على أن تلك الكيمياء تدشن نهاية لسنوات حكم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما «العجاف» والأيام «السوداء» التي شهدتها مصر في عهده – كما تردد في بعض التعليقات.
تلك التعليقات شديدة الأهمية، وتضيف الكثير للواقع العام في مصر، والتطورات التي تشهدها، خاصة مع اقتراب 30 يونيو، وغياب الإنجازات الحقيقية، وزيادة المعاناة، لدرجة أن من أشار إلى أن تلك الكيمياء في «أحلى أوقاتها» أكد على أن «صورة مصر في الخارج أفضل من صورتها في الداخل». تعليقات أو تحليلات يتم تكرارها من أجل دعم بعض الأفكار التي يتم ترويجها من أجل ضمان استمرار السيسي في الحكم، والأكثر أهمية أن يكون هذا الاستمرار باسم الأغلبية والشعبية والتفويض الممتد من مرحلة حكم لمرحلة أخرى. تعليقات في عمق المشهد السياسي الحالي وتفاصيله ومخاطر اللحظة والمستقبل، التي تتجاوز المعاناة الاقتصادية إلى قضايا تتعلق بالسيادة والمكانة، وتمس الأرض والمواقف التاريخية. تلك المواقف والأدوار التي تتجاوز الحديث المستهلك والساخر، إلى عمق الدور والمعنى الذي يفترض أن تمثله مصر اتساقا مع نفسها بالقدر نفسه الذي يفترض فيه أن تحمي به مصالحها ومصالح شعبها.
بداية فإن تلك التعليقات تقوم على تسويق خطاب متكرر في الداخل لا يختلف عن ما أشرت إليه من قبل، عن إعلاء الحاكم على الجميع وإبعاده عن تحمل مسؤولية الفشل. مع إعطاء مهلة جديدة أو تدشين نقطة بداية جديدة يفترض أن تجب ما سبقها من سنوات معاناة وفشل، بكل ما ارتبط بها من وعود، لتبدأ فترة أخرى ومرحلة حساب أخرى. وبدلا من شماعة الإخوان التي يتم الربط بينها وبين كل أزمة أو كارثة تحدث، بما فيها انخفاض سعر الجنيه أمام الدولار الأمريكي، أو ترويج ونشر التشاؤم كما قيل، يتم وضع أوباما بوصفه شماعة أخرى يفترض من الحديث عن أثر حكمه بهذا الشكل، أن يتصور المواطن المصري أن السنوات العجاف والأيام السوداء مجرد نتاج لتلك المرحلة، في حين أن فترة ترامب هي مرحلة العسل واللبن، وأن الكيمياء التي تربطه بالرئيس السيسي، ولأنها شخصية، تتطلب بقاء السيسي في الحكم حتى تجني مصر ثمار تلك المرحلة.
يفترض أيضا من تلك العبارات السريعة أن نتجاوز عن مسؤولية السيسي والحكومة عن المعاناة والأزمات القائمة، وأن نتجاوز عن غياب المحاسبة عن كل ما قيل عن الرخاء المقبل، بعد المشاريع القومية – كما يطلق عليها- التي لم تتناسب مع احتياجات المرحلة، ولم تحقق ما أعلن عنها، بما فيها مشروع العاصمة الجديدة، ومدينة الإنتاج الإعلامي الجديدة فيها، والملايين التي تتكلفها من دون النظر لاحتياجات الشعب الحقيقية على الأرض، ومعاناة القروض المتزايدة في اللحظة والمستقبل، وانخفاض قيمة الجنيه وارتفاع أسعار السلع والخدمات. يراد لنا أن نصدق أن حكم أوباما وموقفه من نظام السيسي شماعة جديدة من شماعات الفشل، حتى تتم تبرئة النظام من مسؤولية الفشل الذي يصر على أنه إنجاز لا يراه إلا البعض، على طريقة ملابس السلطان الوهمية، في القصة الشهيرة.
ومن النقطة السابقة نصل إلى ما تمت الإشارة إليه في تلك المقولات، من أن صورة مصر في الخارج أفضل منها في الخارج، وكأن المشكلة في المواطن الذي لا يرى مصر بشكل سليم، أو لا يرى الإنجازات – وفقا للخطاب الرسمي – وهي الإنجازات التي يراها الخارج، خاصة بعد ما تداول عن أن ترامب قال خلال اللقاء مع السيسي على هامش القمة، إن «السيسي قام بعمل هائل في ظل ظروف صعبة». السؤال المهم في العموم عن أي مصر نتحدث، وهل مصر التي يراها الزائر أو السائح، هي مصر التي يراها المواطن؟ وعن أي مواطن نتحدث، هل المواطن بدرجة الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي تتداول الأخبار عن إعجاب ترامب بحذائه؟ أم المواطن عمرو السيد الذي انتحر في الإسماعيلية بعد سوء معاملته في العمل والسخرية منه بوصفه من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ هل هناك مصر واحدة للجميع يراها من يتحدث أمام الميكروفون عن إنجازات السيسي بالطريقة التي يعيشها الأكثر احتياجا، وهم كثر في وضع اقتصادي مأزوم؟ وبعيدا عن تلك الحقيقة فإن العلاقات الدولية تحكمها المصالح واعتبارات أخرى كثيرة، ليست هي نفسها التي تحكم رؤية المواطن. ومصر التي تختلف صورها لدى مواطنيها، ليست هي مصر لدى ترامب أيضا. والسيسي الذي يتسم حكمه بغياب الديمقراطية وحضور ما يخالفها، بما فيه الاختفاء القسري والتعذيب والمعتقلات، ويزداد في عهده بناء السجون المادية والمعنوية، وتغيب حقوق الانسان، رغم كل حديثه عن أهميتها في محاربة الإرهاب أو تحققها في مصر، ليس هو نفسه السيسي الذي يراه ترامب، أو قد يراه بالصورة نفسها، ولكنه لا يحكم عليه بالطريقة نفسها لأنه في النهاية لديه مصالح تختلف عن مصالح المواطن المصري.
المواطن المصري يريد الحرية والكرامة، حتى إن رفع شعارات العيش والعدالة الاجتماعية، أو طالب بخفض الأسعار أو رفع الأجور، كلها جزء من معركة التحرر من الحاجة والفقر والخوف، كلها جزء من معركة الانسان والكرامة. في حين أن الديمقراطية والحقوق والحريات ليست جزءا من أجندة أو خطاب ترامب، بوصفه رجل أعمال بدرجة رئيس، كل ما يهتم به في النهاية هو إبرام صفقات ناجحة تساعد في تأكيد نجاح رهانه على أسلوبه التصادمي في التعامل مع العالم. وفي الوقت نفسه، فإن مصر الضعيفة التي تحتاج إلى غيرها، سواء ماديا أو عسكريا، والتي قال رئيسها في حديثه مع ترامب إنها «آمنة ومستقرة في ظل التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية» مقزما لها من أجل تعظيم ترامب، هي مصر المطلوبة في مخطط التسوية، وإعادة تشكيل المنطقة، اللذين يداران في الجلسات المغلقة والسرية.
مصر التي يحكمها السيسي، الذى يؤكد أنه قادر على اتخاذ قرارات صعبة لم يتخذها أحد من قبل، تتماشي أكثر مع مخطط ترامب وتصورات بعض دول الإقليم، التي تمثل لهم اللحظة فرصة لإعادة رسم الأدوار الإقليمية، عبر مؤتمرات براقة وكلمات رنانة، تدفع ثمنها شعوب ودول المنطقة مرات ومرات، ولكن الثمن الذي يدفعه البعض أكثر بكثير من الذي يدفعه البعض الآخر، لأنه يمس السيادة والحدود، الكرامة والدور في اللحظة والمستقبل.
منذ المقابلة الأولى التي جمعت السيسي مع ترامب، وهو مرشح للرئاسة الأمريكية، والتأكيد مستمر على التقارب بين الطرفين، تقارب يراد لنا أن نتصور أنه في صالح مصر وشعبها، وهو يدشن ضمن أول حلقاته التنازل عن تيران وصنافير، من أجل إعادة رسم العلاقات العربية (الخليجية أو السعودية تحديدا) مع إسرائيل. تحالف يراد لنا أن نتصور انه مقبل بالخير، رغم أن كل ما يعلن من أرقام وصفقات لا تصل على ما يبدو للمواطن العادي، في عموم المحروسة، والذي لا يعرف إلا الفجوة التي تحدث عنها سائق التوك توك بين مصر المزدهرة التي في الأخبار، ومصر التي تراها وتعيشها على أرض الواقع.
وسط كل هذا ينشغل جزء غير قليل من الجدل بالحديث عن ملابس زوجة ترامب وابنته، وينشغل الجدل في مصر بالحديث عن مقترحات بتشريعات في البرلمان تتعلق بتقنين الخطوبة، وإلغاء تسمية المواليد باسماء أجنبية، ويشغل الرأي العام في حين تباع الجنسية ومعها الأرض، وينتحر من ينتحر بسبب غياب الكرامة. يصبح من السهولة أن يمرر ترامب ما يريد بمجرد أن يعين ابنته مسؤولة عن ملف الشرق الأوسط، وفى حين ينشغل الرأي العام بالصور والملابس، تعقد الاتفاقيات وتدفع الملايين في صفقات أسلحة تشتري صداقة ترامب، وتؤكد على قدرته على تحقيق ما وعد به، من ضخ استثمارات وخلق فرص عمل للمواطن الأمريكي. وعندما يأتي الوضع لمصر يظل السؤال المهم والمخيف ما الذي يمكن أن تقدمه في المسلسل العربي الذي يذاع بعضه علنا ويجهز بعضه سرا لإرضاء ترامب، والبقاء في أضواء اللقاءات الكبرى؟ وإن كان السيسي قد قدم تيران وصنافير دون اهتمام بالشعب، قبل أن تبدأ حلقات المسلسل في البث العلني، فما الذي يمكن أن نراه في المقبل من الأيام؟
كاتبة مصرية
القدس العربي