قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن تحالف تركي روسي جديد، ولكن نتائج الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي بوتين إلى اسطنبول لحضور المؤتمر الدولي الثالث والعشرين للطاقة بتاريخ 10/10/2016، أعطت انطباعاً أن التفاهمات وصلت حدا يمكن اعتباره تحالفا تركيا روسيا جديداً، بدأت بشائره في الزيارة التي قام بها الرئيس التركي أردوغان إلى مدينة بطرسبورغ بتاريخ 9/8/2016، والتي أعلن فيها عن تأسيس لجان روسية وتركية مشتركة لبحث القضايا الثنائية والعلاقات الدولية العالقة بينهما، ليس في المجال الأمني والسياسي والاقتصادي فقط، وإنما في تشكيل لجان مشتركة لقيادتي المخابرات والأركان العسكرية الروسية والتركية، فقد كان تشكيل هيئة عسكرية مشتركة بين البلدين نقطة تحول في العلاقات، في لحظة كان البعض يظن ان تصعيد العلاقات العدائية بين الدولتين بدأ ولن يتوقف إلا بحرب مدمرة في المنطقة.
ما جعل لقاء بطرسبورغ مميزاً عن غيره أنه جاء بعد أحداث مؤلمة لتركيا وروسيا معاً، كان الظن أن دوافع العداء والكراهية المتبادلة تقف وراءها، فكان الحادث الأول إحساس تركيا ان روسيا قد خذلتها في التفاهم حول سوريا، وبالأخص أن التدخل العسكري الروسي الذي أعلن عنه بتاريخ 30/9/2015 كان بعد أسبوع واحد من زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى موسكو ومشاركته لبوتين ومسلمي روسيا بافتتاح أكبر مسجد في موسكو بتاريخ 23/9/2015، والإعلان بعد اللقاء المذكور عن تشكيل لجنة ثلاثية أمريكية روسية تركية للبحث عن حل سياسي في سوريا، فاللجنة لم تر النور أولاً، وذهب الجيش الروسي إلى حرب وحشية ضد الشعب السوري وفصائله المسلحة التابعة للمعارضة السورية المعتدلة، المدعومة من تركيا والدول العربية، وكأن الرئيس الروسي تجاهل الموقف التركي ورجح مشاركة إيران في حربها العدوانية على سوريا، وقد كان ذلك في نظر تركيا تصرفاً خاطئاً من روسيا تجاه تركيا، وعدوانياً ضد الشعب السوري، لا يمكن تغطيته قانونياً ولا أخلاقياً بادعاء طلب حكومة الأسد من روسيا التدخل العسكري في سوريا، ولا حجة روسيا بأنها تقاتل الإرهابيين وتنظيم «الدولة»، بعد ان ثبت للعالم أجمع أن القصف الروسي في الأسبوع الأول وبعده تركز على مواقع المعارضة السورية المعتدلة والجيش السوري الحر، فبدا الموقف الروسي ضحية خدع إيرانية مصدرها قاسم سليماني، الذي زار موسكو في تموز 2015 لهذا الغرض، وضحية تشجيع أمريكي، وعد روسيا بمساعدتها على إنجاز مهمتها العسكرية في سوريا لايجاد دولة سورية مدنية وغير دينية، فكان الموقف الروسي العدواني على سوريا في ذلك الوقت والقدر مفاجئاً للحكومة التركية، كما كان مفاجئاً ومرفوضاً من العالم العربي والإسلامي.
وما جعل لقاء بطرسبورغ متميزا أيضاً أنه جاء معبرا عن مصالحة تركية لروسيا ومن أردوغان شخصيا لبوتين بعد إسقاط الطائرة الروسية المنتهكة للأجواء التركية بتاريخ 24/11/2015 وما أعقبها من عقوبات متبادلة، كانت خسائرها أكثر من مئة (100) مليار على تركيا وروسيا، ما أظهر الصراع التركي الروسي في الأشهر الماضية مؤلما ومؤثرا على الشعبين بصورة مباشرة، وأخيرا جاء الإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا بتاريخ 15 تموز/يوليو الماضي ليضفي علامة مميزة على لقاء بطرسبورغ، فقد جاء في الشهر الأول للانقلاب أولاً، وجاء بعد ترجيح التهم الموجهة للدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بالوقوف وراء الانقلاب الغاشم، وإن لم تكن متهمة بالضلوع فيه، فإنها كانت على علم به ولم تعمل لمنعه أولاً، بل وقفت تدافع عن حقوق الانقلابيين في الاعتقال والسجون وحقوق الإنسان ثانياً، بعد ان قتلوا وجرحوا من الشعب التركي الآلاف، ودمروا مقرات الدولة الأمنية والسياسية بما فيها البرلمان، فكان الموقف الغربي والأمريكي مخزيا في نظر الشعب التركي، وكانت موسكو أو بطرسبورغ قبلة محببة للشعب التركي في ذلك التاريخ، وقد أكد ذلك المخاوف الغربية والأمريكية المعلنة ضد هذه الزيارة لأردوغان إلى روسيا، وبالأخص الإشادة الروسية من الرئيس بوتين لشجاعة الرئيس التركي وشعبه في مواجهة الانقلاب وهزيمته، فقد بدا ذلك مغازلة مبطنة توجب فتح صفحة جديدة بين البلدين، كاد أن يكون العدو المشترك لهما واحداً.
ما رجح هذا التقارب منذ بطرسبوغ هو إحساس بوتين وقد قارب غزوه لسوريا على العام الأول، أنه فشل في هزيمة المعارضة السورية عسكريا، وفشل وزير خارجيته لافروف في إجبار المعارضة السورية المعتدلة على الخضوع لشروط روسيا للحل السياسي في فيينا وجنيف، فأدركت القيادة الروسية انها خدعت بالأوهام والأكاذيب الإيرانية بأن مهمة الجيش الروسي في سوريا سهلة ومضمونة خلال أشهر، بل أدرك الجيش الروسي أن الإحداثيات العسكرية للقصف الروسي التي كان الجيش الإيراني قد أعدها وأعطاها للطيران الحربي الروسي كانت خاطئة أو كاذبة، وقتلت من المدنيين والمباني السكنية والمساجد والمستشفيات والأسواق أكثر بكثير مما قتلت من تنظيم «الدولة»، فأخذت روسيا تسحب زمام المبادرة العسكرية من الجيش الإيراني في سوريا، ووضعته وميليشياته الطائفية وجيش الأسد تحت إمرتها حتى انجلاء الموقف.
وجاء الغدر الأمريكي لروسيا بعدم الالتزام الأمريكي باتفاق وقف اطلاق النار في سوريا دليلا جديدا لروسيا بان أمريكا غير صادقة في اتفاقياتها مع روسيا، فالإدارة السياسية في الخارجية الأمريكية وقعت الاتفاق ولكن وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون رفضته، وكان محور الاتفاق ان يقوم الطيران الأمريكي بقصف مواقع جيش الفتح مع الجيش الروسي، أو على الأقل أن يقدم تعاونا لوجستيا، ولكن البنتاغون رفض التعاون العسكري مع الجيش الروسي في سوريا، وكان من قبل رفض التعاون نفسه في العراق، ومنع روسيا من قيادة تحالف عسكري وغرفة عمليات عسكرية في بغداد تشارك فيه إيران وبغداد ونظام الأسد والجيش الروسي، ما يعني بالنسبة لروسيا أن الجيش الإيراني ليس صاحب القرار في العراق ولا في سوريا ولا في إيران أيضاً، بعد ان رفض البرلمان الإيراني وجود قواعد عسكرية روسية في إيران بضغط أمريكي.
وهكذا أصبح بوتين محاصر عسكريا في سوريا من الغرب وأمريكا بصورة شبه علنية، ومن إيران بصورة خفية غير معلنة، وبقي أمام التراجع عن الخطأ الذي ارتكبه في سوريا نتيجة الخديعة الإيرانية والأمريكية، فالتقى الرئيسان التركي والروسي على تفاهم جديد يعالج مسار كليهما في المرحلة السابقة، فتركيا غير معنية في الصراع مع روسيا إطلاقاً، بل هي بحاجة لها لمواجهة حرب الانقلابات العسكرية التي يقودها الغرب وأمريكا في تركيا منذ نصف قرن، وأصبح في حاجة لروسيا أكثر في مواجهة التحديات الأمريكية التي تزعزع الأمن القومي التركي في شمال سوريا التي تقدم الدعم للأحزاب الإرهابية التي تدعي تبني القضية الكردية في سوريا والمنطقة، وتسعى لإقامة كيان سياسي كردي شمال سوريا، دون أحقية جغرافية ولا ديموغرافية، ما يعني ان أمريكا وهي تدرك ذلك تريد أن تزج بالأكراد في حرب قومية مع العرب والأتراك تقضي على أهل المنطقة وتدمر بلادهم دون فائدة، فمن المستحيل إقامة كيان كردي شمال سوريا إلا بتطهير عرقي وطائفي وقومي، وهذا ما ترفضه تركيا لأكثر من سبب، من أهمها انه يمس الأمن القومي التركي مباشرة، وبالأخص أن الاعتداءات الإرهابية طالت الأراضي التركية بالتفجيرات والصواريخ في كلس وغازي عنتاب والريحانية وسوروج وغيرها.
لهذه الأسباب أصبح التحالف التركي والروسي واجبا وليس خيارا محتملاً فقط، وأصبح لزاما أن تنظر كل دولة إلى مصالح الأخرى بعين الاعتبار وتقديم المساعدة لها، وبالأخص في سوريا، فالرؤية الإيرانية في سوريا خاطئة وغير قابلة للنجاح إطلاقاً، فلا يمكن للشعب السوري أن يقبل الاحتلال والاستعمار الإيراني أو الروسي وهو في القرن الحادي والعشرين، وعلى روسيا أن تفوت الفرصة على الدول الغربية وأمريكا في تحويل سوريا إلى أفغانستان أخرى ضد روسيا، وبالتالي فإن الوجود الروسي في سوريا يجب أن يقرره البرلمان السوري الشرعي المنتخب ديمقراطيا، وليس عائلة الأسد ولا الحرس الثوري الإيراني، فكلاهما لا يمثل الشعب السوري، بل ينبغي رحيلهم قبل رحيل الجيش الروسي من سوريا، فتأمين المصالح الروسية في سوريا يضمنها الشعب السوري وتوقعها الحكومة السورية المنتخبة قريبا في حالة نجاح التفاهم التركي الروسي مع الدول العربية المؤيدة للتعاون مع روسيا وطرد الغزو الإيراني الطائفي من البلاد العربية، ولعل اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي مع وزير الخارجية التركي يوم 13/10/2016، وبعد زيارة مبعوث الرئيس الروسي إلى الرياض ولقائه المسؤولين السعوديين قبل يومين هو دليل على ان إصلاح مسار الحل السياسي في سوريا يجب أن يتم بموافقة الشعب السوري أولاً، وبموافقة انتمائه العربي والإسلامي السني ثانياً، وليس بأيدي الغرباء قوميا والخارجين طائفياً عن إجماع الأمة الإسلامية.
قد يرى البعض أن هذا المسار بعيد عن السياسة الروسية، وهذا صحيح إذا بقيت روسيا مغمضة العينين، أو تسير بعين عوراء إيرانية، وهذا مستحيل بعد فشل المشروع الإيراني الطائفي في سوريا والعراق واليمن ولبنان مهما قتل من شعوبها، وقد مزق هذه الدول خلال السنوات الماضية دون نتيجة، فإذا كان تمزيق الدول العربية مصلحة إيرانية فليس بالضرورة ان تكون مصلحة روسية، فروسيا تبحث عن مصالحها، وتحقيق المصالح الدائمة وليس الآنية هي بيد الشعوب والحكومات المحلية الوطنية، وليس بيد المحتلين الأجانب من الإيرانيين وحرسهم الثوري الأعمى وميليشياته الطائفية حتى لو كانت عربية، لأن وجودها أصبح مرفوضا ولن يغطيه الصراخ في المآتم وادعاء محاربة إسرائيل كذباً، بعد أن قتلت مئات الآلاف من العرب والمسلمين ظلماً وجوراً وفساداً في الأرض.
القدس العربي