اعتبرت الإدارة الأمريكية عمليات تنظيم «القاعدة» ضدّها عام 2001 بداية لتاريخ عالمي جديد يجبّ كل ما كان قبله، ونتيجة قوّتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية الهائلة فقد فرضت هذه «الروزنامة» الجديدة على العالم.
الخطاب الأمريكي حول أحداث أيلول النيويوركية تلك كان يبترها من أي سياق سياسيّ باستثناء كونها عملاً إرهابيا يتطلب انتقاماً رهيباً من أكبر قوة عسكرية على الأرض.
تقبّلت حكومات العالم بداية التاريخ الأمريكية هذه ولكنّها فوجئت بأن الرد لم يقتصر على اجتياح أفغانستان التي رفضت حكومتها آنذاك تسليم زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، بل توسع ليشمل اجتياح العراق، الذي لم يكن لتنظيم «القاعدة» أي أثر فيه.
من نافل القول بعد 15 عاماً على ذلك الحدث إن قرار إدارة المحافظين الجدد الأمريكية برئاسة جورج بوش بالقضاء على «القاعدة» فشل فشلاً ذريعاً، بدليل أن تنظيم «القاعدة» ما زال موجوداً، بل وانضاف عليه تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي فاق سابقه في الوحشية.
كان ذلك نتيجة عملية للزلزال الكبير تعرّض له العراقيون، لكن الأضحية الكبرى على مذبحه كانوا «السنّة»، الذين حُمّلوا مسؤولية نظام صدام حسين (وهو أمر مثار جدل بالنظر إلى العديد الكبير من المسؤولين الشيعة ضمن نظام البعث العراقي)، وقد اعتبر أول حاكم عسكري أمريكي للعراق ما حصل للسنّة إنصافاً لظلم ضد الشيعة دام 1000 عام.
فوجئ المنكوبون العراقيون، بتحالف غريب، ميّزوا معالمه الكبرى على أنه حلف بين أمريكا وإيران، ولكنّ هذا كان جزءاً من الصورة المعقدة وليس الصورة كلها، فأثناء الهجوم على أفغانستان لجأ عدد من قادة الجهاديين إلى إيران التي آوت عدداً منهم وسمحت لبعضهم الآخر بالانتقال إلى العراق عبر كردستان ومن هناك بدأوا استثمار الأوضاع الكارثية في البلد لنشر فكر تنظيم «القاعدة».
كان ذلك تحالف «مضاربة» بين الأمريكيين الذين افترضوا أن القرار الأعلى في العراق كان لهم، والإيرانيين الذين سيطروا عملياً على الأرض والسياسة من خلال الأحزاب الموالية لهم ومن خلال إشراف السياسيين المزدوجي الولاء لواشنطن وطهران، أمثال الراحل أحمد الجلبي، على قوانين تستهدف السنّة وتقصيهم عن مواقع القرار، وهكذا وجدنا أمريكا تطارد كبار السياسيين والضباط العراقيين الذين خدموا نظام صدام حسين، فيما تستهدف الاستخبارات الإيرانية من شاركوا بالحرب ضدها من طيّارين وضباط وسياسيين.
ومثلما كانت أمريكا بحاجة لإثبات وجود «القاعدة» في العراق لتبرير حربها غير القانونية، كانت إيران بحاجة لهذا التنظيم لإخافة الشيعة وتوحيدهم تحت مظلتها، وبذلك خدم هذا التنظيم أهدافاً عديدة أخرى، منها جعله دالّة على إرهاب وتطرّف السنّة بالعموم، ومنها مواجهة الأمريكيين به عند الحاجة، وهو أمر اشتغل عليه نظام بشار الأسد السوري أسوأ اشتغال وأدّى لرفع نوري المالكي، رئيس وزراء العراق السابق، احتجاجات إلى الأمم المتحدة لإيقاف تحشيد دمشق للجهاديين وإرسالهم إلى العراق.
بهذا المعنى، فإن تنظيم «القاعدة» الذي تحوّل إلى «الدولة الإسلامية» هو نتاج الزلزال الكبير لاجتياح العراق، وجماع المظالم التي مورست ضد السنّة، ولكنّه أيضاً حصيلة الخطأ السياسي الأمريكي الكارثي، الذي أدّى إلى تفاقم الظاهرة التي صرفت مئات مليارات الدولارات للانتهاء منها وأزهقت مئات آلاف الأرواح بزعم القضاء عليها، كما أنه حصيلة تلاعب أنظمة إيران وسوريا، ولاحقاً الحكومة العراقية نفسها برئاسة نوري المالكي بمعادلة (السنّة = إرهابيون) بقصد تكبير هذا الغول لجعله العدوّ الأول للعالم، مقابل التغاضي عن الفساد الكبير والمظالم الهائلة والاختلالات السياسية الكبيرة التي أنتجها التحالف الإيراني السوري في المنطقة، والتي انضاف عليها الآن، الاندفاعة الروسية، ومشاعر الانتقام الفرنسية، التي لا تفعل، بانسياقها نحو تجاهل أسباب الإشكالية الكبرى والتعاطي مع نتائجها فقط، غير إعادة تكرار المسلسل الأمريكي الذي أنتج «داعش»
من دون وضع هذه الحيثيات على الطاولة ومناقشة مفاعيلها الكارثية لا يمكن للجنون الذي يجتاح العالم
القدس العربي