تحكم دائرة الأقدار حلقاتها على حياة السوريين في داخل سوريا وخارجها، ففي تركيا وخلال دورات تعليم اللغة الإنكليزية للسوريين، تطرح المعلمة البريطانية، التي تطوعت لعمل دورات للسوريين باللغة الإنكليزية، موضوع الاستقرار في تركيا للنقاش: هل هو استقرار دائم ،أم مؤقت؟ وما هي المشاكل والعقبات التي تصاحب هذا الاستقرار؟
قرابة خمسة وعشرين رجلاً وامرأة من مختلف الفئات العمرية والتعليمية، أجمعوا على أن الخروج من سوريا لم يكن خياراً؛ بل أمر أُكرهوا عليه، بسبب قصف قوات الأسد لمناطقهم، أو ملاحقتهم أمنياً، لا أحد فكر بالاستقرار في تركيا بشكل دائم،ولكن تركيا كانت البلد الجار الذي رحب بالسوريين، وتعاطف مع قضيتهم، وحاول أن يقدم المساعدة قدر المستطاع لهم. الأغلبية من الأتراك تنظر للسوريين على أنهم إخوتهم المهاجرين، وعليهم هم الأنصار دعمهم ومساعدتهم، وإن كان طول أمد البقاء في تركيا وزيادة الأعداد ومعها المشاكل قد زادت الأعباء على كلا الطرفين، فالاستقرار في تركيا الذي بدا في البداية مؤقتاً، أصبح الآن يأخذ شكلا من أشكال الديمومة بلا أي بصيص أمل لحل قريب لمأساة الشعب السوري.
تحدثت طبيبة حمصية تدعى «ليلى» عن مشاكل الاستقرار وقالت: أصعب ما نواجهه في المجتمع الجديد هو صعوبة تعلم اللغة التركية؛ فهي كلغة ليست سهلة، ولسنا معتادين عليها، ولم نتعلمها في المدارس كاللغة الإنكليزية.
وتضيف: «ربما لدينا رفض لاشعوري لواقع لجوئنا يجعل تعلمها صعباً علينا، والحقيقة أن حاجز اللغة يشكل مشكلة حقيقية في تعاملنا مع محيطنا التركي؛ فهم لا يتكلمون العربية ولا الإنكليزية، وهذا أمر عانيت منه كثيرا مع أطفالي الذين أصرّوا على عدم الالتحاق بمدرسة تركية، وفضّلوا المدرسة السورية».
يعمل «أحمد»، وهو شاب عشريني، في إحدى المؤسسات الناشطة في الشأن السوري في غازي عنتاب، طرح في حديثه قضية هامة يعاني منها أغلب السوريين فيقول: أخرج من منزلي في الصباح الباكر ولا أعود إلا متأخراً كل يوم، أعود مرهقاً جداً من عملي ولا وقت لدي لإعداد أي طعام؛ لذلك اضطر إلى تناول أي طعام سريع والذي غالباً لا يكون صحياً، وأحاول التقاط أنفاسي استعدادا ليوم عمل جديد، وهكذا أقضي كل أيامي فلا أستطيع أن أحلم حتى بإجازة قصيرة كباقي البشر.
يعقّب ياسر على كلام أحمد، وياسر موظف في منتصف العمر ورب أسرة، فيتحدث عن الحياة في غازي عنتاب التي يراها غالية: «الأسعار تواصل ارتفاعها بشكل دائم، وكذلك إيجارات المنازل، أما الأجور التي تدفع للسوريين فهي أجور متدنية لا تكفي لمتطلبات الحياة الأساسية، خصوصاً إذا قارناها بأجور الأتراك لنفس ساعات العمل، فالتركي يحصل على أجر يكفل له حياة مرفهة؛ في حين يناضل السوري ليكفيه الراتب لآخر الشهر، ولا أدري أي سياسة يتبعها من يديرون المؤسسات والمدارس السورية، أو حتى من يعمل عندهم السوريين، ولماذا يستغلون حاجتنا للعمل لنحيا؛ ويعطوننا أقل الأجور، ألسنا بشراً مثلهم، ولدينا أسر واحتياجات؟». مشيراً إلى أن الأسر تضطر لتشغيل أكثر من فرد من أفرادها لتحصيل الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ليبقى الأطفال أوقاتا طويلة بلا رعاية بسبب انشغال الآباء والأمهات في أعمالهم، في حياة تزداد صعوبة يومياً بعد يوم.
أحمد طالب جامعي يخالف البقية الرأي، ويرى أن الحياة في عنتاب أسهل من أنقرة وإسطنبول؛ فإيجارات المنازل أرخص، وهي أقرب من مركز المدينة، الأمر الذي ليس متوفراً في كلا العاصمتين،ولكن تأتي عنتاب في المركز الثالث من حيث غلاء المعيشة بعد العاصمتين، ربما على السوريين أن يفكروا بالحياة بعيداً عن المدن الكبرى.
ليلى تفكر من منظور أشمل فتقول: نشعر جميعاً هنا بعدم الانتماء،صحيح أننا ابتعدنا عن الحرب؛ ولكننا ما زلنا نشعر بعدم الأمان؛ فنحن بلا وطن، بلا جوازات، وقريباً بلا جنسية؛ ولذلك يفكر كثير من السوريين بركوب الموت للعبور إلى أوروبا، ليصبحوا مواطنين في دول تعطيهم الجنسية بعد عدد من السنوات. وتتابع ليلى حديثها: «هنا لا أرى أي أفق للمستقبل، فلا العودة إلى سورية ممكنة تحت حكم براميل الأسد، أو سيوف داعش، ونخشى ما نخشاه أن تفوز المعارضة التركية في الانتخابات؛ لتطردنا جميعاً خارج تركيا، لم ننس بعد الاعتداءات الأخيرة في تركيا، وكذلك الانقطاع المفاجئ والطويل الأمد للكهرباء، عن أربع وعشرين محافظة تركية ولأسباب مجهولة؛ وهذا يخبرنا أن هناك أمراً خطيراً يحاك لحكومة العدالة والتنمية، وأنه لا يراد لها الاستمرار في حكم تركيا».
فهل سيكتب علينا التيه كما كتب على قوم موسى عليه السلام أربعين عاما، أم أن لنا أملاً قادماً بسورية عدالة وحرية لكل السوريين، بعد القضاء على نظام بشار الأسد وأعونه، الذين سببوا الشقاء والدمار لسورية ولكل السوريين، ذلك الحلم هو فعلاً ما نتمناه جميعاً.
نور ملاح «القدس العربي»