مع تقدم التحالف المضاد لتنظيم «الدولة» إلى منطقة الرقة، عاصمة ما تعرف بالدولة الإسلامية في العراق وسوريا والذي يأتي متزامنا مع العمليات الجارية في الموصل يدور الحديث حول الوقفة الأخيرة للجهادي الداعشي. ففي الوقت الذي رجح فيه مراقبون لمآلات التنظيم أنه سيقاتل حتى النفس الأخير ويستميت في الدفاع عن معاقله المهمة في العراق وسوريا تتجه الأنظار إلى حوض الفرات ودير الزور شرقي سوريا حيث لا يزال مقاتلوه يتحصنون هناك بعدما خسروا معاقلهم في شمال سوريا وفي العراق.
رقعة الشطرنج
وتحمل معركة الرقة أهمية لا من ناحية بقاء أو تلاشي التنظيم، فهو لن ينتهي بهزيمة عسكرية وإنما من السباق المحموم بين القوى المحلية والإقليمية والدولية على رسم مناطق نفوذ لها خاصة في بادية الشام التي تحولت مثل رقعة شطرنج تحاول فيها قوة ذات مصلحة بالأزمة السورية موضعة نفسها حالة تراجع التنظيم عن معاقله. ويخشى أن يؤدي التنافس إلى مواجهات غير محمودة العواقب، فالجميع يراقب النشاطات الإيرانية على جانبي الحدود حيث أقامت الميليشيات الشيعية- الحشد الشعبي حضورا لها في بلدة البعاج، قرب الحدود السورية والتي يرى فيها قادة الحشد نقطة حيوية لتحقيق الممر الذي يمتد من الحدود الإيرانية عابرا العراق إلى البحر المتوسط. وهو ممر بري يعطي إيران الفرصة لإيصال الإمدادات لوكلائها بالمنطقة دون مشاكل.
ونقل مراسل صحيفة «الغارديان» (16/6/2017) عن قادة في الحشد الشعبي انهم «باقون» في البعاج بل وأقام كل فصيل شارك بقتال التنظيم قاعدة له. ويبدو أنهم متعجلون من أمرهم فلم يهتموا كما قال بتنظيف البلدة الخالية من سكانها من المفخخات والسيارات المدمرة التي خلفتها المعارك الشديدة قبل تراجع التنظيم. ولم يستبعد قادة في الحشد دخول الأراضي السورية والتلاقي مع الميليشيات الأخرى الموالية لنظام بشار الأسد. ومن هنا يفهم النشاط الأمريكي بمنطقة شرق سوريا حيث دعمت واشنطن فصائل من الجيش السوري الحر في التنف التي قام الطيران الأمريكي باستهداف ميليشيات موالية للنظام كانت تتقدم نحو القاعدة العسكرية هناك وأكثر من مرة. وفي الوقت الذي تحدث فيه المبعوث الأمريكي الخاص لدول التحالف بريت ماكغيرك عن هزائم التنظيم، إلا أن التكهنات حول طول أو قصر المعركة أمر صعب في ظل المعركة الطويلة التي يخوضها الجيش العراقي في الموصل. واعترف ماكغيرك أن العملية في الرقة طويلة الأمد: «لم يبق لديهم سوى أحياء قليلة في الموصل وفقدوا أجزاء من الرقة ويمكن للحملة ان تتصاعد» وقال «هذه عناصر مهمة في هزيمة داعش إلا أنها ستكون جهودا على المدى البعيد».
تعقيد الحرب
وفي الوقت الذي تتطلع فيه الولايات المتحدة لتحقيق انتصار سريع وبأقل الثمن مستخدمة «قوات سوريا الديمقراطية» ذات الغالبية الكردية-من قوات حماية الشعب- إلإ أن الإدارة الأمريكية تسهم على المدى البعيد بتعقيد الصورة خاصة أنها لا تملك خطة للإنتقال السياسي وماذا ستفعل مع القوات الكردية التي تحتل مدينة ذات غالبية عربية وكيف ستتعامل مع التقدم الذي تحققه قوات النظام المدعومة من إيران وروسيا. ويرى فردريك هوف من المجلس الأطلنطي في مقال نشرته مجلة «نيوزويك» (14/6/2017) أن ما يهم في معركة الرقة هو تأمينها بدون التسبب بكارثة إنسانية. كما أكد على أهمية وجود خطة للإنتقال السياسي من حالة الدولة الفاشلة إلى الشرعية. ويعتقد أن العقبة الأولى والقاتلة للسياسة التي تحاول منع سوريا أن تكون ملاذا للجهاديين هي المؤسسة السياسية الأمريكية نفسها التي ترى أن المهمة صعبة التحقيق. ولهذا تقوم وزارة الدفاع والقيادة المركزية بالإشراف على حملة يقودها الأكراد في العمليات ضد تنظيم «الدولة» لتقليل الخسائر الأمريكية، وكل هذا لتحقيق انتصار سريع. ولن يتحقق هذا بدون خطة يمكن تنفيذها لإعادة الإستقرار بالمناطق المحررة. ولكن الإدارة ترى أن العمل مع المعارضة السورية والإنتباه للدروس التي تم تعلمها من الحملات في العراق وليبيا تدخل ضمن إطار عمليات بناء أمم، وترامب لم يأت لهذه الغاية، فشعاره الأول والأخير «أمريكا أولا». ومن هنا ألمح ماكغيرك في 19 أيار (مايو) إلى أن من سيدير المناطق المحررة ستكون جماعات وشخصيات محلية من المناطق التي سيخرج منها الجهاديون. مع أن وزير الدفاع جون ماتيس أكد أن مهمة الولايات المتحدة في سوريا تتركز على تركيع تنظيم «الدولة» فقط. إلا أنه أشار لأهمية الحل السياسي قائلا إن القوات الأمريكية لن تكون موجودة هناك لتحقيقه. ويرى هوف أن القيادة الأمريكية لم تتعلم من دروس غزو العراق عام 2003 حيث كان تحقيق النصر سهلا أما ترتيبات ما بعد سقوط النظام العراقي فهي التي فشلت وأسهمت لاحقا ببروز تنظيم «الدولة». وفي ضوء هذا التفكير فإن عدم استقرار الوضع يعني استمرار الظروف التي سمحت لولادة تنظيم «الدولة» وعودته من جديد. ولن تمنع ظروف كهذه من عودة النظام المصمم على توسيع مناطقه للرقة وبدعم روسي-إيراني. ورغم التحركات الجزئية التي قامت بها إدارة الرئيس دونالد ترامب في سوريا من ضرب قاعدة جوية للنظام بعد الهجوم الكيميائي على خان شيخون في محافظة إدلب ومنع القوات الأمريكية الخاصة في قاعدة التنف تقدم الميليشيات الموالية للأسد ضد الجماعات المدعومة من واشنطن إلا أن هذا لا يمنح الولايات المتحدة السلطة الكافية لفرض حل بعدما تخلت طويلا في ظل إدارة أوباما عن الساحة السورية وتركتها مسرحا للنشاطات الروسية والإيرانية. ومن هنا فترك مرحلة ما بعد الرقة للحظ تعني حسب هوف أمران: إما عودة النظام أو ظهور نسخة ثانية من تنظيم «الدولة».
سيادة العسكريين
ولعل أهم ملمح في إدارة ترامب للحرب على تنظيم «الدولة» الذي جعله أولوية انتخابية هي تركه الحرية للجيش التصرف كما يراه مناسبا في الحرب على الإرهاب. وانعكست هذه السياسة على مستويات القتلى بين المدنيين التي زادت بشكل نسبي حسب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية. وأشار المعلق سايمون تسيدال في «الغارديان» (14/6/2017) إلى تسليم ترامب ماتيس ملف إدارة الحرب في أفغانستان، وما أصدره من قرارات تسمح لقيادات البنتاغون بالتصرف بحرية في سوريا والعراق واليمن والصومال. ويعتقد تسيدال أن سياسة رفع اليد التي يمارسها البيت الأبيض تهدد بالتصعيد على الجبهات دون سيطرة على العسكر ونقص في الإشراف الديمقراطي على الآلة العسكرية الأمريكية. وأشار الكاتب إلى تزايد الوجود الأمريكي على الأرض وفي الجو في العراق وسوريا والذي ترافق مع زيادة واضحة في أعداد الضحايا المدنيين خاصة في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة» في الرقة والموصل حسب منظمات الإغاثة والمراقبين. وحسب مجموعة «ايرويز» التي تقوم برصد عمليات التحالف الدولي فإن عدد القتلى المدنيين من الغارات الجوية في سوريا والعراق وصل هذا العام إلى 3800 شخص. ويشير الكاتب إلى أن تسليم ترامب ملف العمليات للعسكريين له بعد شخصي حيث يمنحه القرار التنصل من المسؤولية حالة فشل الأهداف العسكرية. تماما كما فعل عندما فشلت عملية للقوات الخاصة في اليمن ضد تنظيم القاعدة، صادق عليها بعد خمسة أيام من دخوله البيت الأبيض.
نزاعات
لكل هذا يبدو التركيز على تحقيق نصر رمزي في الرقة دون تحمل مسؤوليات ما بعد الحرب مثيرا للمخاوف وقد يؤدي إلى نزاعات أكثر من استقرار. وبالضرورة فالطريقة التي أصرت فيها الولايات المتحدة على دعم فصيل وتجاهل مظاهر قلق دولة حليفة لها وعضو الناتو، تركيا، تكون تشعل حرائق أكثر من إطفائها. وترى بورجو كراكاس من «بازفيد» (16/6/2017) أن الخلاف التركي- الكردي سيعقد الحرب وسيؤدي لخسارة إدارة ترامب أهم حليف له بالمنطقة وربما أشعل حربا جديدة. ويرى أرزو يلماز، مدير الدراسات الكردية بالجامعة الأمريكية في كردستان: «ينتظر أردوغان ويراقب ما ستسفر عنه معركة الرقة» و «لو سمح لكيان مستقل كردي فستندلع أزمة جديدة». ويقول محللون إن تركيا رضيت بالخطة الأمريكية لمعركة الرقة مع أن معارضتها لها ستؤدي إلى حرب جديدة. ويرى مراد يشيلطاس، مدير الدراسات الأمنية في معهد «سيتا» بأنقرة «يمكنني القول أن تركيا لديها الخيار العسكري على الطاولة». ويقول أوزغور أولوهساركجلا من مؤسسة مارشال الألمانية إن تركيا تريد منع قوات حماية الشعب من توسيع مناطقها في شمال سوريا وتحقيق كيان مستقل على الحدود التركية. ولأن قوات حماية الشعب هي فرع من حزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيا والذي يخوض حربا ضد الدولة التركية منذ عقود فحقيقة استمراره بشن هجمات من داخل مناطق الأكراد السوريين تعطي الأتراك مبررا لشن حملة عسكرية. ويرى يشيلطاس أن «ما تحاول تركيا عمله هو منع سيادة كردية لسوريا».
ليست المعركة الأخيرة
وفي النهاية فالمعركة على الرقة التي تسيطر عليها قوات التنظيم منذ عام 2013 ليست المعركة الحاسمة كما حاولت الولايات المتحدة تصويرها. فمنذ تموز (يوليو) 2016 والإدارة الأمريكية تتحدث عنها كمعركة فاصلة وحاسمة تعني خسارة التنظيم لقاعدة الدعم والتمويل والتخطيط وإرسال الجهاديين للمدن الأوروبية. مع أن المعلقين الذين راقبوا تحركات التنظيم مثل جينفر كافاريلا من معهد دراسات الحرب في واشنطن يعرفون أنه يخطط مبكرا للعمليات ويتسم بالإنضباط ويتحرك بسرعة قبل تقدم القوات المعادية له، حيث ينقل قادته وخبراء صناعة الأسلحة والمنظرين إلى مناطق أكثر أمنا. وأصبح التنظيم ماهرا في حروب المدن ويستخدم عددا محدودا من المقاتلين في مواجهة قوات متفوقة عدديا وعتادا عليه. ويعتمد على القناصة والمفخخات والإنغماسيين لإبطاء حركة أعدائه. فرغم الخسائر التي تكبدها يقول مصدر نقلت عنه صحيفة «إندبندنت» أن لديه حتى الآن ما بين 2.500 ـ 4.000 مقاتل في الموصل منهم ما بين 450 إلى 800 يخوضون المعارك. في إشارة للطريقة التي يقلل فيها التنظيم من قواته. وقد يكون الأمر قد حدث في الرقة. ويرى مراقب آخر أن هناك حوالي 36.000 مقاتل تابع له في العراق وسوريا وهذه القوة جاهزة للعودة إلى أساليب حرب العصابات التي بدأها قبل خروجه السريع عام 2014. وفي المعنى الأيديولوجي، فخسارة الرقة والموصل لا تعتبر هزيمة بل بداية لمرحلة جديدة للجهاديين تحررهم هذه المرة من الدفاع عن مناطق ثابتة ومدن. وسيتجنب بهذه الطريقة القوة الأمريكية الضاربة. ونظرا لقلة الجنود لدى الجيشين العراقي والسوري والأكراد فلن تكون قادرة على الحفاظ على مكاسبها. وسيحضر نفسه لجولة مقبلة.
إبراهيم درويش – القدس العربي