«النصرةُ» في قاموس أمريكا السياسي تنظيمٌ إرهابي، لكنها في قاموسها العسكري تنظيمٌ ميداني رديف لحلفائها ضد الجيش السوري.
حاولت واشنطن طويلاً بناء تنظيمات عسكرية متماسكة لما تسميه «المعارضة السورية المعتدلة»، لكن دونما جدوى. الفشل قادها إلى مشروع بديل: فك ارتباط «النصرة» بـِ»القاعدة» لإسقاط صفة الإرهاب عنها وتسويغ اعتمادها قوةً عسكرية فاعلة ضد الجيش والحكم السوريين.
قيادة «النصرة» فاضلت طويلاً بين محاسن فك الارتباط ومساوئه في ضوء انشغال تركيا بتداعيات الانقلاب الغامض ضد رجب طيب أردوغان، وانقلابه الواضح على ما تبقّى من جيش اتاتورك وعلى مصالح ونفوذ حليفه السابق اللدود فتح الله غولن من جهة، واستعادة الجيش السوري زمام المبادرة في شمال البلاد من جهة أخرى . المفاضلة بين خياريّ الارتباط وفك الارتباط بـ»القاعدة» اقنعت قائد «النصرة» ابو محمد الجولاني وأركانه بترجيح اعتماد الخيار الأخير.
في أثناء فترة المفاضلة، كان الطرفان يدرسان مسألة الخروج من البيعة. مرشد «القاعدة» الشيخ ايمن الظواهري لا تنقصه الواقعية والمرونة، فتنظيمه العالمي ليس جسماً مركزياً بقدر ما هو تيار لامركزي، ترفع قياداته في مختلف البلدان راية الفكر «الجهادي» السلفي المتطرف، وتحتفظ بسلطة القرار السياسي والميداني المحلي. في ضوء هذا الواقع، اصدر الظواهري فتوى فك بيعة «النصرة».
ماذا بعد؟
تتعدد التكهنات والتحليلات والسيناريوهات، ذلك أن اطرافاً ومصالح وحكومات، محلية واقليمية ودولية، تتأثر سلباً أو ايجاباً بقرار فك الارتباط وتداعياته السياسية والميدانية التي يمكن إيجازها على النحو الآتي:
الولايات المتحدة لها مخططاتها وسياساتها التي تتناول سوريا والعراق وتركيا واسرائيل وإيران، كما تستهدف قوى المقاومة العربية عموماً وحزب الله خصوصاً. فهي حريصة على عدم تمكين حكومة دمشق والجيش السوري من الانفراد بالانتصار على «داعش» و»النصرة» مخافةَ أن يفسد ذلك مخططها الرامي إلى تحويل سوريا دولة كونفدرالية أو فدرالية يكون للكرد حكم ذاتي في شمالها الشرقي، وللعرب السنّة نظام مماثل في محافظتي الرقة ودير الزور، أي على امتداد حدود سوريا الشرقية مع العراق. كذلك تحرص واشنطن على عدم تمكين حكومة بغداد وجيشها و»الحشد الشعبي» الذي كرسته تنظيماً رسمياً مرتبطاً بها من تحرير الموصل وسائر انحاء محافظتيّ نينوى والأنبار من «داعش»، لأنها تدعم مساعي جعل هذه المناطق اقليماً ذا حكم ذاتي، مثل كردستان العراق، يتميّز عن سائر المحافظات العراقية ذات الطابع الشيعي، ويشكّل إسفيناً جغرافياً وسياسياً يفصــل سوريا عــن العــراق وتالياً عــن ايــران.
إلى ذلـــــك ، تأمل واشنطـن بتحويـل «النصــرة»، بعد خلعهـــا ثوب «القاعدة»، إلى قـوة فاعلــــة للمعارضة المعتدلـة، تأخـذ على عاتقها مهمة دحر «داعش» والسيطرة على المناطق التي يحتلها في الجولان السوري ما يحقق غرضين مهمين: الأول، إقامة منطقة عازلة بين سوريا واسرائيل يُغني الأخيرة عن التكلفة السياسية والمادية الباهظة لإقامتها. الثاني، توفير ورقة سياسية للمعارضة السورية المعتدلة في مفاوضات «الحل السياسي» في جنيف.
روسيا يهمها دعم سوريا والعراق لتمكينهما من دحر التنظيمات الإرهابية صوناً لوحدتهما والحؤول تالياً دون تحويلهما دولتين كونفدراليتين لإثنيات وطوائف وقبائل تدور في فلك أمريكا واسرائيل. بذلك تضمن روسيا، كما ايران والصين المندرجة جميعاً في «تجمع شنغهاي»، جسراً قارياً طويلاً عريضاً للتجارة والتبادل، يستعيد «درب الحرير» التاريخي الممتد من آسيا إلى اوروبا.
تركيا منشغلة بنفسها بعد الانقلاب الفاشل على اردوغان وانقلابه الناجح على خصومه. ما يجري في جمهورية اتاتورك المضطربة مخاضٌ طويل سيؤدي بالضرورة إلى إعادة نظام اردوغان النظر بسياساته المتعثرة التي تسببّت بنزاعات واضطرابات مع الدول المجاورة. صحيح أن التقارب المستجد بين تركيا وروسيا سيحدّ من انخراط انقرة في عمليات توريد المقاتلين والسلاح والعتاد للتنظيمات الإرهابية العاملة في شمال سوريا وشرقها، لكنه لن ينهي خلافها مع سوريا إلاّ، ربما، بعد التفاهم معها على صيغة لمعالجة الوجود الكردي النازع إلى إقامة إقليم حكم ذاتي يمتد من الحسكة شرقاً إلى عفرين غرباً على طول الحدود السورية ـ التركية.
ايران ستركّز جهودها في الحاضر والمستقبل المنظور على ثلاثة محاور متكاملة: الاول، إحباط محاولات الولايات المتحدة الرامية لاحتوائها بعد انبرام الاتفاق النووي وللحدّ من نمو صناعتها الصاورخية البالستية. الثاني، تعظيم مجهودها التنموي في جميع المجالات. الثالث، دعـــم تحالفها مع سوريا وقوى المقاومة العربية، ولاســـيما حـــزب الله اللبناني و»الجهاد الإسلامي» و«كتائب القسام» الفلسطينيتين. لذلك ستجد ايران نفسها منخـــرطــة في صراع متطاول مع الولايات المتحدة واسرائيل الحريصتين على إضعافها وحلفائها. وفي هذا السياق، قد تحاول القوى المعادية لحزب الله تفجير عمليات عدائية له انطلاقاً من مخيم عين الحلوة (صيدا) الفلسطيني املاً بدفعه إلى الاستدارة بإعادة قواته المحاربة في سوريا إلى لبنان لمواجهة الوضع العدائي المستجد.
السعودية ستضطر إلى تعديل سياستها بعد الانقلاب التركي الفاشل، والتقارب الروسي –التركي البازغ، وانتزاع الجيش السوري زمام المبادرة في مدينة حلب ومحيطها. التعديل سيكون محدوداً ازاء سوريا ولن يكون محسوساً ازاء اليمن. ستثابر الرياض على التنسيق مع واشنطن والضغط عليها في آن من أجل التشدد مع حكومة الرئيس بشار الأسد من جهة ودعم الجهود الرامية إلى تعزيز التحالف الخليجي ـ الاقليمي في وجه ايران من جهة اخرى.
سوريا ستوظف التقارب الروسي- التركي في عملية تحرير جميع المناطق المحتلة من «داعش» والتنظيمات المتحالفة معه ضد الجيش السوري، تأميناً لوحدة البلاد واستقلالها. لكنها لن تخذل موسكو الساعية إلى ايجاد ارضية مشتركة مع واشنطن لتقريب مفاوضات الحل السياسي. كما انها لن تتهاون في الدفاع عن حزب الله بصفته حليفها الإستراتيجي الثابت في وجه اسرائيل والإرهاب التكفيري.
هكذا يشتد الصراع ويتفرّع بين مختلف اللاعبين الدوليين والاقليميين على مستوى المشـــــهد الاقليمي بأبعـــاده جميعاً. وهو صراع يدور، في التحليل الأخير، بين اطراف ترى في تعجيل الحل العسكري طريقاً اقصر إلى تسويةٍ سياسية تريدها في مصلحتها بطبيعة الحال، وبين اطرافٍ اخرى تقاوم تعجيل الحسم العسكري تأميناً لتقريب مفاوضات الحل السياسي، أو بالاحرى التسوية السياسية، من أجل مصالحها ايضاً.
القدس العربي – د. عصام نعمان