جاء قرار إنهاء العملية العسكرية الروسية في سوريا مفاجئا للجميع، ليصبح برهانا جديدا على أن الحرب السورية تعد بالنسبة لروسيا جزءاً من الحرب الجيوسياسية من أجل عالم متعدد الأقطاب. ورغم ذلك، لا نستطيع القول إنه تم إغلاق الجبهة السورية بالفعل، بل إنه فرصة لإعادة تشكيل الإنجازات العسكرية بوسائل سياسية.
منذ بداية العملية في سوريا، أكدت القيادة الروسية مرارا أنها لا تنوي البقاء في سوريا لوقت طويل. وكان الحديث يدور حول أربعة أو خمسة أشهر فقط، لكن الجميع لم يثقوا بذلك. وبعد خمسة أشهر ونصف، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن القوات الروسية الموجودة في سوريا حققت الجزء الأكبر من أهدافها، مشيرا إلى انها أوجدت ظروفا ملائمة للتمهيد لعملية السلام. وقد تم اختيار توقيت سحب الجزء الرئيسي من القوة العسكرية الروسية بشكل صحيح، بالتزامن مع التهدئة التي تم التوصل إليها بمساعدة الجهود الدبلوماسية الروسية. فالانسحاب في وقت التهدئة يعني أن تغادر فائزا، لكن الانسحاب في الحرب، يعني أنك خاسر. لذلك قامت روسيا بسحب قواتها خلال تهدئة هشة، ولكنها، في جميع الأحوال، تهدئة ساعدت في تحقيقها.
ويرى المستشرق الروسي والأستاذ في قسم العلوم السياسية في مدرسة الاقتصاد العليا أنه تم اختيار توقيت سحب القوات، ولو جزئيا، من سوريا بشكل جيد جدا ويضيف قائلا: «قد لا تسنح هذه الفرصة في المستقبل. وكان بوتين يقول منذ البداية إنه لن يتم تنفيذ عملية برية في سوريا وليست هناك نية للانهماك في هذه العملية. لذلك كان من الضروري مغادرة سوريا في اللحظة الصحيحة بعد تحقيق الأهداف المحددة. والآن حانت هذه اللحظة». ولا يجب أن ننسى ما قاله الرئيس بوتين ردا على سؤال أحد الصحافيين حول موعد سحب القوات الروسية من سوريا، حيث قال: «سنقوم بدعم الأسد جوا ليكون قادرا على التقدم والهجوم». ويؤكد الخبير أن القيادة الروسية كانت تدرك على الدوام خطر الغرق في هذا النزاع، كما لم ينس أحد في موسكو التجربة الروسية في أفغانستان. ولن تتكرر تجربة أفغانستان في سوريا. ووفق رأي إيسايف، فإن قرار التدخل في سوريا كان خاطئا، وقد تمكنت القيادة الروسية من تصحيح هذا الخطأ في اللحظة الصحيحة.
ولم يكذب الرئيس بوتين لما قال إن روسيا حققت الجزء الأكبر من أهدافها في سوريا وحان وقت المغادرة. فالنتائج باتت واضحة في المجالات الدبلوماسية والعسكرية والداخلية. ولما أوعز بوتين لوزير الدفاع سيرغي شويغو بسحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية، لم يقل شيئا حول تنظيم «الدولة الإسلامية». ليس لأنه تم القضاء على هذا التنظيم، بل لأن القضاء على «داعش» كان منذ البداية هدفا إعلاميا صعب التحقيق. اما الأهداف الحقيقية فكانت مختلفة تماما. ويرى غريغوري كوساتش، المستشرق الروسي والأستاذ في جامعة العلوم الإنسانية في موسكو، أن قرار القيادة الروسية وضَعَ النقاط على الحروف، وأظهر ان الهدف الرئيسي لروسيا في سوريا كان عدم السماح بسقوط نظام الأسد، وليس محاربة الإرهاب العالمي. ويضيف قائلا: «لا يكذب بوتين بشكل عام عندما يقول إنه تم تحقيق الجزء الأكبر من الأهداف الروسية في سوريا، حيث تم توسيع الأراضي التي يسيطر عليها جيش الأسد وأصبح الجيش السوري يمتلك المبادرة الحربية اللازمة. وكان ذلك الهدف الأهم الذي كان من الضروري تحقيقه. ولم تسمح روسيا بإسقاط نظام الأسد، لكنها مضطرة لسحب قواتها في ظروف الأزمة الاقتصادية المتصاعدة في روسيا». كما يعتبر المستشرق الروسي أن هذا القرار يتعلق برغبة روسيا في إيصال رسالة للأسد مفادها أن روسيا لا تعتزم استرجاع سوريا بأكملها من أجله بواسطة السلاح. وإن إقرار مصير سوريا في يد السوريين فقط.
ويرى فلاديمير أحمدوف، الباحث في شؤون العالم العربي في معهد الاستشراق الروسي في موسكو، أن من النتائج الرئيسية للحملة الروسية في سوريا هو تمكن القوات الروسية من تحقيق التوازن بين القوى السورية.
وقال: «تم إضعاف البنية التحتية لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا من جهة، ومن جهة أخرى أنقذنا النظام السوري ودربنا العسكريين السوريين ودعمنا مواقعهم. نعم، لم نغير توازن القوى بصورة جذرية ولكننا ساعدنا في توازن القوى. من الناحية العسكرية، قمنا بتضييق مواقع المعارضة السورية المسلحة في جبهتي دمشق – حلب وفتحنا الطريق لتقدم القوات السورية المسلحة. وكل ذلك ساعد على ظهور إمكانية لإقامة الحوار بين الجانبين المتحاربين. بدأت المباحثات في جنيف. وإضافة إلى ذلك، قامت روسيا باستعراض قدراتها العسكرية في سوريا، وأظهرت للجميع أنه لا بد من أخذ مواقفها بعين الاعتبار. والآن نلعب مع الولايات المتحدة على قدم المساواة».
وكانت العزلة الدولية بدأت تُفرض على روسيا عام 2015 بعد انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا وبداية الحرب في دونباس وتحطم الطائرة الماليزية. لكن مع بدء العملية العسكرية في سوريا تغير الوضع. وعلى الرغم من الانتقادات والاتهامات بمساعدة الأسد، بدأ المجتمع الدولي يأخذ بعين الاعتبار الموقف الروسي. وعادت روسيا إلى مجلس المدراء العالمي وإلى طاولة المباحثات حيث يتم اتخاذ القرارات المتعلقة بالنزاعات الإقليمية. وبدأت المباحثات في جنيف من القرار الأمريكي الذي جاء به وزير الخارجية جون كيري شخصيا إلى موسكو في كانون الأول/دسيمبر الماضي. والتهدئة الجارية هي نتيجة القرار الآخر الذي تم اتخاذه بمساعدة روسيا أيضا.
وأبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الرئيس الروسي أن القوات السورية مدعومة بسلاح الجو تمكنت منذ بدء العملية الروسية في البلاد من تحرير 400 مدينة وقرية سورية، واستعادت السيطرة على أكثر من 10 آلاف كيلومتر مربع من أراضي البلاد.
وأضاف أن الطيران الحربي الروسي دمر في سوريا حوالي 209 منشأة متخصصة في إنتاج النفط، فضلا عن أكثر من 2000 شاحنة لنقل المنتجات النفطية، وقتل أكثر من 2000 مسلح، بمن فيهم 17 قائدا للمجموعات الإرهابية، كانوا قد تسللوا إلى البلاد. وقد نفذت قوات الطيران الروسية أكثر من 9 آلاف طلعة جوية منذ بداية العملية في 30 أيلول/سبتمبر الماضي.
ولا تعود روسيا من سوريا فارغة اليدين، ولكن ثمن نتائجها غال جدا. ويرى ليونيد إيسايف، المستعرب الروسي، ان لحظة التدخل الروسي في سوريا عرّضت روسيا لمخاطر كثيرة، وقد أدركت القيادة ذلك، والأخطار الجديدة لن تكون مبررة. ويضيف قائلا: «عندما دخلت قواتنا إلى سوريا، جازفت بكل ما كانت تمتلكه، وكان هذا خطير جدا. في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي كان ذلك مبررا، ولكن الأخطار الجديدة لن تكون مبررة بالمستوى نفسه، لأن الوضع تغير وأنجزنا النتائج الملموسة. ومع ذلك دفعنا ثمنا باهظا أيضا، حيث أنفقنا أموالا ضخمة وخسرنا جنودا وتحطمت طائرة كان على متنها 224 مواطنا روسيا في سيناء بسبب عمل إرهابي نفذه مسلحو تنظيم «داعش» بعد بدء العملية الروسية في سوريا. ولا يجب أن ننسى أننا أنقذنا صديقنا الأسد ولكننا خسرنا صديقنا الآخر أردوغان، واليوم تشهد العلاقات الروسية التركية أزمة عميقة حيث أصبحت تركيا عدونا».
من جانب آخر، لم تسحب روسيا قواتها بشكل نهائي. وخلال اجتماعه بوزير الدفاع الروسي قال بوتين إن قوات البحرية والقاعدة الجوية الروسية في مدينة طرطوس ستعود للعمل كما كانت قبل التدخل العسكري الأخير. ويسود الاعتقاد ان الحديث يدور حول إعادة صياغة وجود روسيا في سوريا. ويرى فلاديمير أحمدوف أن سحب القوات يعد خطوة روسية تكتيكية وفي الحقيقة، لا تغادر روسيا سوريا والشرق الأوسط.
«من الممكن إلى حد ما تسمية الانسحاب بالخطوة التكتيكية. بالفعل، اختفت الحاجة للوجود الجوي العسكري الدائم في سوريا، ولكن تم الحفاظ على القاعدة الجوية في حميميم ومركز الإمداد المادي والتقني الروسي في طرطوس. كما بقي في سوريا عدد من العسكريين والجنود الروس. ويعني ذلك ان مصالحنا في سوريا ما زالت محمية. وفي حال ظهور أي تهديد لمصالحنا في سوريا أو جنودنا فسنجد دائما إمكانية لمواجهتها. كما لا تزال أنظمة «إس 400» في سوريا. إننا نقوم بسحب قواتنا من سوريا ولكننا نبقى فيها وفي الشرق الأوسط. ونريد دعم العملية السلمية التي تسمح للسوريين تقرير مصيرهم بأنفسهم».
واحدة تلو الأخرى، تغادر الطائرات العسكرية الروسية الأراضي السورية وتغادر معها آمال النظام السوري بأن روسيا ستقوم بإرجاع سوريا له. ويؤكد الخبير الروسي فلاديمير أحمدوف أن بوتين أرسل بقراره إشارات لأطراف النزاع العديدة. «لقد أنقذنا هذا النظام من السقوط وأنشأنا الظروف الملائمة لتوازن القوى. ونقدم الآن للنظام حق الاختيار: مواصلة الحرب أو بدء المباحثات». ويضيف الخبير أن الكرة الآن في ملعب المباحثات في جنيف. ولا بد للأسد أن يكون مطاوعا ويجب على الجانبين الجلوس إلى طاولة المباحثات.
القدس العربي – فيكتوريا سيميوشينا