من ضرورات فهم المعارك والحروب العسكرية فهم المسارات السياسية التي تصاحبها، سواء كانت قبلها أو بعدها، والأهم في الغالب ما يتبعها من أحداث ومسارات سياسية، تتخذ من المعارك العسكرية وسيلة لتحقيقها.
وتركيا بدعمها لـ «الجيش السوري الحر» بوصفه الفصيل العسكري الوطني الأكبر لقوات المعارضة في شمال سوريا تسعى لتحقيق أهداف مشتركة، وفي مقدمها تأمين المناطق العربية لسكانها الأصليين، لمنع احتلالها من الأحزاب الانفصالية، أو لتحريرها منهم إن كانوا قد احتلوها بذرائع كاذبة ودعم خارجي.
ففي حين غفلة محلياً، ومدروسة دولياً من أمريكا وإيران وبشار الأسد ونوري المالكي ظهر تنظيم «الدولة» في العراق وسوريا واستولى على معظم الأراضي العراقية والسورية، في مشهد عسكري غير صادق ولا بريء، مما أضطر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى اتهام نوري المالكي بأنه هو المسؤول عن تسليم الموصل لتنظيم «الدولة»، وكذلك تعرف المخابرات الدولية أن بشار الأسد على صلة مع بعض قادة تنظيم «الدولة» قبل أن يطلق سراحهم من سجونه وبعدها. أما دونالد ترامب الرئيس الأمريكي فقد اتهم سلفه باراك أوباما بتأسيس تنظيم «الدولة» أو»داعش»، لأن إدارته هي المشرفة على التسهيلات التي قدمها المالكي وبشار للتنظيم، الذي من مستودعات الأسلحة والعربات المدرعة والذخيرة الكبيرة في سوريا والعراق معاً، فقد ورث التنظيم من المالكي وحده عتاداً وأسلحة وذخائر أربعة فرق عسكرية انسحبت من الموصل وسلمتها للتنظيم.
لذا كان من الواجب في ذلك الوقت تحليل أهداف هذه الدول من تسهيل تأسيس «الدولة». لكن شدة الأحداث واللغط الدولي الذي صنعته إدارة أوباما من مؤتمرات في جدة وباريس وغيرها لتشكيل تحالف دولي لمحاربة «الدولة « كما وصفها بيان مؤتمر باريس في 15 سبتمبر/ أيلول 2014 وتشكيل تحالف من ستين دولة صرف الأنظار عن الأسئلة المهمة، ولكن تركيا رفضت المشاركة في الأعمال العسكرية للتحالف لمحاربة التنظيم حتى تُبين أمريكا خطتها وأهدافها من تشكيل هذا التحالف وطبيعة عملياته العسكرية، لكن أمريكا رفضت ذلك، لأنها تريد إدارة المعركة لسنوات قبل أن تعمل على تصفية هذه الدولة المزعومة، مع استغلال أعمالها المشبوهة لربط تهمة الإرهاب بالإسلام وليس بالتنظيم المتمسح باسم الإسلام فقط.
وبقيت تركيا لأكثر من سنة وهي ترفض المشاركة في العمليات العسكرية للتحالف الدولي ضد «الدولة» في سوريا والعراق، ولكن أمريكا وبعد فشلها في توريط تركيا بهذه الحرب المجهولة، وفشلها في توريط الفصائل السورية المعتدلة في أن تدخل في قتال مميت مع هذا التنظيم، لاقتناعها بأنه أداة بيد الغير، وبالتالي يمكن استغلاله في معارك مع كل الأطراف لمجرد القتال وتحقيق المصالح الدولية فقط.
ظهور تنظيم»الدولة» واستهداف المناطق السنية
هكذا بقيت جبهات سوريا والعراق مشتعلة لسنوات من بعد ظهور» الدولة» وستبقى كذلك، لأن من أهداف تأسيسه تدمير البنية التحتية في العراق وسوريا، وبالأخص الأماكن التي توصف ديمغرافيا بالمناطق السنية، فتم تدمير كل مدن السنة في العراق، والآن يتم تدمير الموصل على مرأى العالم بحجة تحريرها ممن يسمى بـ«داعش»، بينما عملت أمريكا بحجة تطهيرها من التنظيم على محاولة تنفيذ مشروع التقسيم بإعطاء المدن العربية إلى تنظيمات إنفصالية كردية طامعة في تكوين كيان سياسي خاص بها.
والخشية أن تبقى أمريكا وحتى بعد أوباما متبنية لهذه الاستراتيجية القديمة في تقسيم سوريا، ولكن بطريقة مختلفة، ليس بفرضه بالقوة العسكرية، بل ستجعل منه خلاصا يطالب به الشعب السوري السني والعلوي والدرزي والكردي والعربي والتركماني، ولذلك كان لا بد من إنقاذ ما يمكن إنقاذه طالما أن إيران وروسيا وأمريكا متفقون على تقاسم المصالح في سوريا بتقسيمها على أتباعهم، فالصراع الآن على المدن ومن يأخذها تحت سلطته قبل أن تفرض أمريكا وروسيا والأطراف المشاركة في الصراع السوري وقف إطلاق نار ملزم أولاً، وتحت طائلة العقوبة والحساب عند مخالفته ثانيا.
لقد استغلت أمريكا حاجة العرب السنة في العراق وسوريا إلى الحفاظ على ذاتهم سياسيا وعسكريا، ودفعت بهم إلى المشاركة في العملية السياسية في العراق بحسب دستور بريمر، ولكنهم لم يحققوا شيئا من النفوذ السياسي ولا العسكري ولا المالي، وتم تكرار الأمر نفسه بهم في سوريا قبل أن يأتي دستور روسيا الذي وزعته في مؤتمر أستانة الأول على استحياء، فكانت ردود أفعال السنة انفعالية، فتشتت قواهم وانتماءاتهم وفصائلهم السياسية والعسكرية، وفوق ذلك أخطأ كثير منهم بوثوقهم في الوعود الدولية الكاذبة بأن المؤتمرات السياسية في جنيف أو فيينا أو أستانة قد تأتيهم بالحل السياسي، بينما هم يساقون إلى الاستسلام والتقسيم، ولذلك لم يكن أمام تركيا إلا أن تدعم «الجيش السوري الحر» باسترداد أراضيه ومدنه وقراه وأريافه من أيدي المحتلين لها، سواء كانوا أحزاباً انفصالية كردية، أو من تنظيم «الدولة».
لقد حاولت تركيا ان تسترد هذه المدن من «الدولة» دون قتال ودون قتل لأن في مدينة الباب وحدها مائة ألف من المواطنين المدنيين، وتركيا حريصة على أرواح الأبرياء. وقد انسحب تنظيم «الدولة» من مواقع وأُخرج من أخرى بالقوة المحدودة ولكنهم رفضوا في غيرها، فكان لا بد من استعمال القوة التي يملكها «الجيش السوري الحر»، ولأن بقاء تنظيم «الدولة» في هذه المدن والأرياف لن يوقف القتال في سوريا، بل سيجعلها سببا لمواصلة كل ألوان العدوان الروسي والأمريكي والإيراني والكردي، الذي يواصل تدميره لسوريا، بحجة تحريرها من «الدولة»، بينما سيطرة الجيش السوري الحر عليها يعني امتلاكها من قبل أهلها أولاً، وهو ما يحقق للشعب السوري مناطق آمنة يلجأ إليها من أمكان الاقتتال والصراع.
لماذا تأخرت تركيا
في دخول الباب؟
لقد تأخرت تركيا في دخول الباب لعدة أشهر من موعدها المرسوم لأنها لا تريد أن يكون هناك عدد كبير من الضحايا المدنيين ومن «الجيش السوري الحر» ولا من الجنود الأتراك الذين يقدمون الدعم لـ«الجيش السوري الحر»، لكن ما أخر ذلك ليس «الدولة» وحده وإنما محاولة إيران عرقلة مسار مؤتمر أستانة، ومحاولة بشار الأسد مقايضة خروج «الدولة» لإدخال قواته فيها بأوامرإيرانية، ومقابل إفساح المجال لقوات «الدولة» في أماكن أخرى، فهو يريد الباب للمفاوضات السياسية والمساومة على مواقف أخرى، بينما «الجيش السوري الحر» أقدر على دخولها واستردادها، فقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الأحد 12 من الشهر الحالي وهو يغادر تركيا إلى البحرين: «إنّ طرد تنظيم «داعش» الإرهابي من مدينة الباب بريف حلب الشرقي، بات مسألة وقت لا أكثر، وإن قوات الجيش السوري الحر المدعومة من قِبل تركيا، يمكنها إعلان السيطرة على المدينة في أي وقت». وأوضح « أنّ قوات «الجيش السوري الحر» وقوات المهام الخاصة التركية، دخلتا مركز مدينة الباب، وأنّ عناصر «داعش» الإرهابية بدأت بإخلاء مواقعها والانسحاب إلى خارج المدينة».
لقد حاولت إيران عرقلة عملية «درع الفرات» باستهداف ثلاثة جنود أتراك بتاريخ 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2016، وهاهي روسيا تحاول عرقلة العملية في مدينة الباب أيضاً باستهداف مقاتلة روسية لموقع الجنود الأتراك قبل أيام فقتلت ثلاثة وجرحت أحد عشر.قالت روسيا في ردها الرسمي» أن القصف كان عن طريق الخطأ»، ولكن ليس مستبعداً أن تكون قد اعتمدت في إحداثياتها على جيش الأسد. وقد رد أردوغان عن قتل الجنود الأتراك بالقول: «إن رئاسة هيئة الأركان التركية نشرت معلومات كافية حول هذا الموضوع، وإن ما دار من حوار بيني وبين نظيري الروسي فلاديمير بوتين، يلخص حقيقة هذه الحادثة»، دون أن يذكر تفاصيل تلك المحادثة. ولكن مواصلة تركيا التقدم في الباب يعني أن روسيا تتفهم الأهداف التركية، بحق الشعب السوري تطهير مدنه من الأجانب، ورداً على سؤال حول ما إذا كانت عملية «درع الفرات» ستنتهي بعد السيطرة على مدينة الباب، أجاب أردوغان: « إنّ العملية لن تتوقف عقب تحريرالمدينة المذكورة من «داعش»، وأنّ الهدف الرئيسي لتركيا، هو تطهير كافة المنطقة من عناصر التنظيم، وتعلمون أنّ المعقل الرئيسي للتنظيم، محافظة الرقة الشمالية، فعندما يتم تطهير الرقة من هؤلاء الإرهابيين، حينها يمكننا القول بأنّ شمال سوريا خلت من «داعش»».
وتركيا تعلم أن حسم الموضوع في الباب يحتاج إلى دعم من قوات التحالف، ولكن أمريكا لم تلبي الدعوة التركية حتى الآن، وتراوغ في مسألة الباب وتحرير الرقة، بل عندما حاصر «الجيش السوري الحر» مدينة الباب بدأت أمريكا تتلكأ في تحرير الرقة وتؤجلها، وربما تعمل لإبقائها مع تنظيم «الدولة» لاستقبال الفارين من الموصل، بدليل عدم استهداف قوافلهم التي تدخل سوريا من العراق، وكذلك لا تمانع تقديم تنظيم «الدولة» الدعم لقواته في الباب من الرقة، وكأنها تعاكس الخطة التركية لتحرير الباب.كما أن ميليشيات إيران والأسد يواصلون خرق الهدنة لعرقلة التفاهم التركي الروسي، وهذا لا يتم إلا بالتفاهم مع أمريكا، لأن أمريكا لم تقبل خروج الرعاية للحل السياسي إلى أستانة بديلا عن جنيف، وعملت من خلال إيران والأسد وبعض الدول العربية إلى إعادة المفاوضات إلى جنيف، وجعل الروس طرفا شريكا وليس راعياً للمؤتمر.
لقد استطاعت تركيا من خلال دعم «الجيش السوري الحر» تحرير بعض مدنه وهو يواصل تحرير الباقي، وتسعى تركيا من خلال مطالبتها بالمنطقة الآمنة جعل هذه الأراضي التي يسيطر عليها «السوري الحر» أولى المناطق الآمنة، فتركيا اضطرت إلى أن تكون في المعركة لتكون فاعلة على طاولة المفاوضات كما خططت الحكومة التركية، سواء في سوريا أو في العراق، فمستقبل سوريا والعراق يمس الأمن القومي التركي مباشرة، ولذلك أجاب أردوغان على السؤال السابق إن «درع الفرات» سوف يستمر بعد الباب إلى منبج، حيث لا ذريعة أن تبقى تحت سيطرة قوات «حماية الشعب الكردية» بعد تحريرها من «الدولة»، فـ»الجيش السوري» الحر أولى بها، لأن منبج مدينة عربية وليست كردية، هذا إذا تم قراءة الجغرافيا السورية قراءة قومية. إن تركيا تأمل أن تكون الادارة الأمريكية الجديدة جادة في إقامة مناطق آمنة لمساعدة الشعب السوري من القتل والاضطهاد الطائفي والعرقي، فتركيا لا تقاتل بالنيابة عن الشعب السوري أولاً، ولا تدعم «الجيش السوري الحر» إلا من أجل أن يجد الشعب السوري منطقة آمنة، تأمل ان تجد مشاركة أمريكية لرؤيتها، ولا خلاف على أن تأخير انسحاب «الدولة» من الباب قد اعاق تحريرها، ولكن السؤال من يطالب «الدولة» بعدم الانسحاب؟ ومحاولة الأسد بالسيطرة على الباب تعطي جواباً أولياً، ولكن السؤال التالي من يطلب من الأسد المزاحمة على السيطرة على الباب؟ وهل الهدف مواجهة الجيش السوري فيها أم منع المنطقة الآمنة، التي يدرك الأسد أنها ستكون ضد أحلامه باستعادة السيطرة على شمال سوريا.
لقد أعلنت تركيا أنها على استعداد للمشاركة الدولية في تحرير الرقة، ولكنها لا تقبل ان يكون تحريرها بمشاركة قوات سوريا أو أي ميليشيا انفصالية، كما لا ترى بأن تقدم محاربة «الدولة» على إسقاط الأسد في الرؤية الأمريكية الجديدة قد لا تكون صحيحة، لأن الأسد هو المتسبب و«الدولة» هي النتيجة، الأسد هو الأصل وتنظيم «الدولة» هو الفرع، فقطع الفرع لا يحل المشكلة، ولو قطع الأصل يزول معه الفرع حتماً، بانتهاء أسباب وجوده، وتركيا قادرة على تشكيل قوة عسكرية تقدر بعشرة آلاف مواطن سوري لتحرير الرقة، وحتى يكونوا حراس المنطقة الآمنة على الأرض، بينما أمريكا لم تعلن عن موافقتها على الرؤية التركية.
لم يخف الرئيس التركي أردوغان خططه للمنطقة الآمنة عن الرئيس الأمريكي ترامب، ولا عن مدير المخابرات الأمريكية بومبيو عند زيارته لتركيا يوم 12 من الشهر الحالي، ولكن أمريكا حتى الآن تشارك تركيا بالموافقة على المنطقة الآمنة دون إعلان موقفها من مشاركة «قوات سوريا الديمقراطية» أولا، فإذا كان ترامب جادا بمعالجة المشاكل الأمنية في الشرق الأوسط فعليه أن يتجاوب مع مطالب أهلها الرئيسيين، وعدم وضع خطط مشتركة مع المحتلين الأجانب كما فعل أوباما مع إيران، ولا السعي لتغيير التقسيمات السياسية الحالية في سوريا والعراق ولا غيرها، وإلا فإن الاستقرار الأمني لن يجد سبيله لعقود قادمة.كما أن تقسيم سوريا والعراق سيخدم في النهاية أهداف إيران في إيجاد كيانات طائفية تابعة لها، كما أن محاولة حل المشكلة السورية ببقاء الأسد سيكون مكافأة أخرى لإيران من ترامب في اللحظة التي يدعي أنه سيمزق الاتفاق النووي معها، وأن سياسته نحو إيران ستكون مختلفة عن سلفه أوباما.
القدس العربي