في عملية خاطفة، وبتكلفة زهيدة، استعادت أنقرة خطوطها الحمراء التي لطالما انتهكت في سوريا طوال السنوات الماضية، وذلك بدعم وغطاء سياسي وعسكري أمريكي، في خطوة فتحت الباب واسعاً أمام التكهنات والتساؤلات عن السبب في تغير موقف واشنطن والثمن الذي ستدفعه أنقرة لها مقابل هذا الدعم الذي امتنعت إدارة أوباما عن تقديمه لأردوغان طوال الفترة الماضية.
العملية التي أطلق عليها الجيش التركي «درع الفرات» تمكنت خلال ساعات فقط من السيطرة على مدينة جرابلس وإبعاد خطر تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» عن نقطة مهمة من الحدود التركية، وإعادة الزخم إلى الدور التركي في سوريا بعد أن اقترب من التلاشي لا سيما عقب إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية على الحدود مع سوريا وبدء التدخل العسكري الروسي.
هذه النتائج تبدو متواضعة وعادية مقارنة بما حققته العملية العسكرية أو التوافقات السياسية مع واشنطن فيما يتعلق بسحب جميع الوحدات الكردية التي تجاوزت غرب نهر الفرات إلى مواقعها السابقة شرق النهر، وتغاضي واشنطن عن قيام قوات المعارضة السورية بالاشتباك مع الوحدات الكردية غرب الفرات بدعم تركي، وهي الوحدات نفسها التي عبرت النهر بغطاء جوي ودعم لوجستي أمريكي في وقت سابق.
واشتبكت وحدات المعارضة السورية التابعة لـ»الجيش السوري الحر» مع وحدات حماية الشعب الكردية المنضوية تحت لواء «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة أمريكاً في بعض القرى بمحيط مدينة جرابلس، وتمكنت من طردها منها، وقبل ذلك بأيام ضربت المدفعية التركية العديد من مواقع الوحدات الكردية في محيط مدينة منبج التي سيطرت عليها عقب طرد مسلحي تنظيم «الدولة» منها.
وأمس الخميس، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، انسحاب الوحدات الكردية إلى شرق نهر الفرات، حيث قالت مصادر دبلوماسية تركية إن كيري اتصل هاتفياً بجاويش أوغلو، وبحث معه عملية «درع الفرات» وأكد على أهمية استمرار التعاون بين الجانبين، وعقب ذلك أعلن الناطق باسم التحالف الدولي أن الوحدات الكردية انسحب بالفعل إلى شرق نهر الفرات، وهو بالفعل ما أكدته «قوات سوريا الديمقراطية» في بيان رسمي لها.
الناطق باسم البيت الأبيض، جوش أرنست، قال إن عملية «درع الفرات» هي آخر الأمثلة حول الدعم المهم الذي تقدمه أنقرة لجهود مكافحة داعش، مشدداً على استمرار العلاقات التركية الأمريكية بقوة، وذالك بالقول: «تركيا والولايات المتحدة لديهما القدرة على التنسيق بشكل فعال ضد التهديدات التي تستهدف مصالحهما المشتركة».
ورغم ذلك، لم تهدأ التهديدات التركية في محاولة لاستغلال «الانجاز» الأخير، حيث أعلن وزير الدفاع التركي فكري ايشيك، الخميس، أن بلاده «لها كل الحق في التدخل» في حال لم تنسحب الوحدات الكردية سريعاً إلى شرق الفرات»، كما هدد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الأربعاء، الوحدات بالقول: «على عناصر «ب ي د» المنضوية ضمن قوات سوريا الديمقراطية الانسحاب إلى شرق نهر الفرات بأسرع وقت، وإلّا فإننا سنقوم بما يجب فعله لإخراج هذه العناصر من غرب الفرات».
وفي موقف لافت، أكد نائب الرئيس الأمريكي «جو بايدن» الذي زار تركيا، الأربعاء، على تضامن بلاده مع الشرعية في تركيا، وشدد على ضرورة عدم عبور وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني الإرهابي إلى غرب نهر الفرات، محذراً من قطع الولايات المتحدة الدعم عن تلك القوات في حال عبرت النهر.
هذا الدعم الأمريكي المفاجئ لأنقرة، يُجمع مراقبون على أنه لا يمكن أن يمر دون ثمن حقيقي ستدفعه أنقرة لواشنطن خلال الفترة المقبلة، وهو يتمثل على الأغلب في الدخول بحرب طويلة ضد تنظيم «الدولة» في سوريا وعدم الاكتفاء بتأمين الشريط الحدودي فقط.
ورأت وسائل إعلام تركية أن «الصفقة» الأمريكية التركية تنص على الأغلب على رفع الولايات المتحدة الغطاء والحماية السياسية والعسكرية عن الوحدات الكردية في غرب الفرات، مقابل تعهد أنقرة في الدخول بمواجهة عسكرية أكبر بالتعاون مع المعارضة السورية ضد تنظيم «الدولة» في سوريا.
ورأى مراقبون أن هذه الصفقة مفيدة لتركيا كونها تضمن لها استعادة دورها المحوري في الملف السوري، وإزالة «الخطر الكردي» الذي بات الهاجس الأكبر لأنقرة، وتأمين حدودها بعد إزالة خطر التنظيم الذي صعد هجماته الصاروخية والانتحارية داخل أراضيها، وفي حال النجاح في ذلك تكون المناطق المحررة من التنظيم بمثابة «مناطق آمنة» تضمن عدم تدفق موجات لجوء جديدة من سوريا، وربما تهيئتها لاستقبال جزء من اللاجئين السوريين الموجودين داخل الأراضي التركية والذين باتوا يشكلون عبئاً ثقيلاً عليها.
وعلى الرغم من إعلان الجيش التركي والمعارضة السورية إحكام السيطرة على مدينة جرابلس بالكامل، واصلت هذه القوات توسعها نحو قرى أخرى يسيطر عليها تنظيم الدولة والوحدات الكردية، بينما واصل الجيش التركي الزج بعشرات الدبابات إلى الداخل السوري، صباح الخميس، واستقدام عشرات المدرعات من اسطنبول إلى الشريط الحدودي، في تحركات ربما تؤشر إلى أن العملية ستتواصل وستتوسع خلال الأيام المقبلة. وفي هذا الإطار نقلت وكالة الأناضول، عن قائد في المعارضة السورية، إن العملية ستمهد بالفعل لإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا.
لكن في المقابل، حذر آخرون من أن تتحول هذا العملية – في حال استمرارها وتوسعها- إلى حرب استنزاف طويلة الأمد بين الجيش التركي ومسلحي تنظيم «الدولة» الذي لم يدخل حتى الآن في معارك حقيقية مع القوات التركية ومسلحي المعارضة السورية الذين دخلوا إلى جرابلس.
فعلى الرغم من أن وسائل الإعلام التركية حاولت إظهار الطابع القومي للعملية وقوة الجيش التركي الذي استعاد جرابلس خلال ساعات، إلا أن الحقائق على الأرض تشير إلى أن التنظيم فضل عدم المواجهة تاركاً المدينة بعد اشتباكات محدودة أسفرت عن مقتل 2 من مقاتلي الجيش الحر وإصابة آخرين، ومقتل العشرات من مسلحيه بحسب إعلان الجيش التركي الرسمي.
فالتنظيم الذي اعتاد على حرب الشوارع أثبت قدرة عالية على الصمود أمام القوات المهاجمة حتى وإن تمتعت بغطاء مدفعي وجوي مكثف، وفي حال تعمق الجيش التركي إلى الداخل السوري – مدينة الباب الذي يسيطر عليها التنظيم مثالاً- فلا شك أن مواجهات عسكرية دامية سيخوضها الجيش التركي ومسلحو المعارضة سيستخدم خلالها التنظيم البيوت والسيارات المفخخة والهجمات الانتحارية وحرب الشوارع والأنفاق.
وهذا السيناريو الذي يخيف أنقرة كثيراً، كان أحد أسباب تأخر التدخل العسكري التركي في سوريا طوال السنوات الماضية، بجانب عدم الحصول على الغطاء السياسي والدعم العسكري الأمريكي، الذي يبدو أنه توفر هذه المرة لكن لا يخشى المسؤولون الأتراك أن لا يستمر أو يكون بالقدر المطلوب، الأمر الذي قد يدفع أردوغان إلى عدم التهور والخوض كثيراً في الداخل السوري.
القدس العربي